صفحة من كتاب الخيانة
الهعدهد / مقالات
بقلم / علي المؤيد
كان عهده بالفعل عهدَ الأمن والاستقرار.. الأمن والاستقرار له، وحوله، وبمعيته، حيثما حلَّ، وحيثما سارَ، لا يفارقه، في حلِّه، وترحاله، بل كان الأمنُ والاستقرارُ يُقيم بصورة دائمة في بداية ونهاية شارع سيف بن ذي يزن وفي منتصف شارع جمال وفي نهاية شارع القصر، و”مراهق وصوافي” النهدين وفي قلب قرية الدجاج وفي الثنية الصنعانية ووسط أكمة عكابر الجحملية، وُصُــولاً إلى الأمن والاستقرار الذي أحاط بمزارعه في الجر وسردود والحسينية وباقي تهامة، وشرق رِصابة وسائر قصوره الجملوكية في عواصم المحافظات وقصور ومزارع الأسرة المالكة والحاشية والجلاوزة المقربين ومن تبعهم بخسرانٍ إلى يوم الدين؛ ولذلك فقد كان الأمنُ والاستقرارُ في كُـلِّ مكانٍ تقريباً، ملأ الأمنُ والاستقرارُ أرجاءَ دائرة الولاء والإذعان لفخامته وهذه الدائرة المخصوصة بالازدهار والرخاء فلا تشوبُها شائبةٌ حتى لو انتقل فخامتُه الذي يُمثّل مركز الدائرة ومصدر الترف العتيد والموبقات التكتيكية اللئيمة، إلى محافظة أَو منطقة ما فسرعانَ ما يملأ تلك المنطقةَ الأمنَ والاستقرارَ -المؤقت- إلى أن تصابَ بالتخمة الأمنية، فيُمنع التجوّلُ بالسلاح بل ويُمنع العبورُ إلا بعد السؤال والتحري والتفتيش الدقيق، حتى وإن كنتَ في منطقة تبعد عدّة أميال عن مكان إقامة مصدر الموبقات وسوءة السلطات الثلاث، والذي ما إن يغادر حتى تعود الفوضى بقضها وقضيضها مجرجرةً أذيالَها لتعم المنطقة، ليكتمل عندها اليتم والفقد والروع في كُـلِّ البلاد، وتعود مياه الخذلان إلى سواقي شريعة الغاب كما كان الحالُ في مأرب وبقية المحافظات الأُخرى النائية.
ولتعزيز ذلك الأمن والاستقرار الموجه كان أفرادُ الحرس الخاص جنوداً حقيقيين من ناحية الوزن والطول والقيافة العسكرية والجهوزية والتجهيزات والتدريب والدعم… إلخ، ترى في ملامحهم شكيمةً تفتقدها كليًّا في وجوه الجنود المطحونين من عامّة أفراد الجيش والقوات المسلحة الأبية، الذين كانوا على استعدادٍ دائم للموت فداءً لرغبات يجهلون مصادرَها أَو فداءً لضمير الوطن الغائب، بينما كان حماةُ النهدين حراس الخصوصية الماجنة والطفرات والنزوات الرئاسية المتوالية على استعدادٍ تامٍّ للموت فداءً لتيس الضباط، ضابط إيقاع الخيانة العامة والخَاصَّة، كان بالفعل جيشاً متمرّساً على حماية الوطن الصغير الكائن ما بين السبعين والخمسين (الوطن الخاص) الوطن الذي ينعم حصرياً بالأمن والاستقرار.
وبطبيعة الحال -آنذاك- كان سوءة السلطات الثلاث هو الوطن الذي يسير على قدمين ويلبس حلة ماركة آرماني، وبحوزته وزارة المالية وحساب الحكومة العام والبنك المركزي وغير المركَزي واستثمارات وَإيداعات خارجية وحسابات جارية وأرصدة بنكية سرية وكافّة المنهوبات الوطنية العينية والنقدية، فضلاً عن احتياطيٍّ هائلٍ من أقذع الشتائم التي يبعثرها على أعدائه وَأعوانه على حَــدٍّ سواء، مع اختلافٍ بسيطٍ يتمثّل في أن رجالَه الواقعين ضمن دائرة الولاء لشخصه الأثيم كانوا يتلقونها على الهواء مباشرةً وبدون فواصلَ إعلانيةٍ، وكلما كان الشخصُ أكثرَ قرباً منه تزداد حصّتُه من زخات القذارة اللفظية المنهمرة على الدوام، وقد تزداد أَو تنقص من وقتٍ لآخرَ تبعاً لمزاج وحالة تيس السفاهة، وما كانت عفونة صحف السوء والقذف والخسة الصفراء كـ”دستور” العشملي و”بلاد” الفيشاني وما شابههما إلا بمثابة ذيلِ الفيل.. فيل البذاءة والانحطاط الذي كبر وترعرع في مقيل ومجلس فخامته العامر بالأمن والاستقرار والقبح الرسمي، فخامته كان بحقٍّ مصدرَ الموبقات وصانعَ الوطن المهووس بقيادة أفخم السيارات والخيول، تاركاً للسفراء والحقراء قيادةَ البلاد.
متجوِّلاً في الوطن المملوك للمنفى كان يحلم بالتاج على رأس خاوية يحملها ولده الأكبر على كتفيه، رغم أنه كان يدرك جيَدًا مقدارَ سذاجته السياسية وَالاجتماعية وحجم بلادته العسكرية وأنه -بالتأكيد- لا يمتلك مؤهلات والده مؤسّسِ الخيانة الاحترافية وخبير الخداع وإلهاء الناس وشيطان الرقص على رؤوس الثعابين؛ ولذلك عمد الخائنُ الأب إلى تكثيف جهوده صوبَ تأمين الطريق إلى النهدين للولد الراكد من خلال بناء وتدعيم جمهورية الحرس الجمهوري أملاً في ردع جمهورية سواد حنش الإسفنجية العظمى وجمهورية الحصبة الديمقراطية الشعبيّة وبقية مراكز قوى صنعاء، واللهُ خيرُ الماكرين.
حين ظلَّ الخائنُ مصدرَ الموبقات التعيس يصدع رؤوسَ الناس بمقولة “اعرِف وطنك”، كان يرى الوطنَ مجرّداً من كُـلِّ روح، تماماً مثل مقياس الرسم أَو مثل التضاريس وَالالتواءات الكنتورية في خريطة باردة (طبعاً بما فيها من رموز تُشير إلى الموارد الطبيعية)؛ ولذلك كان الخائنُ الفذ فعلياً أجهلَ الناسِ بماهية الوطن وهُوية البلد، “اعرف وطنك”.. كان في أغلب الظن يقصد الوطنَ المفتوحَ على مصراعيه للتصحر الكبير والرغبات النجدية المأفونة.. الوطن للمقاولات والتجارة.. الوطن لصاحبه أعرابي لا يجيد اللغةَ العربيةَ.. الوطن الذي يديره أمثالُ نبيل خوري وجيرالد فايرستاين ويسوسه رئيسُ اللجنة الخَاصَّة وشركاؤه التافهون، لا أتحدّث الآن عن 62 ألف كم مربع بيعت بثمنٍ زهيدٍ في اتّفاقية جِدّة، ولا عن عشرات آلاف الكيلومترات التي قضمها آلُ سعود شيئاً فشيئاً خلال الثمانينيات والتسعينيات، ولا أتحدّث فقط عن نفط الجوف، ولا عن ذهب وفضة حجّة وَنهم، ولا عن طيران اليمنية، ولا عن حقول صافر، التي ظلّت لعقدين من الزمن لا تضخ سوى 180 ألفَ برميل، حتى وإن قفزَ عددُ الآبار الإنتاجية فيها من ثمانين بئراً إلى أربعمِئة بئرٍ، ولا أتحدّث كذلك عن آلاف الصفقات التجارية والقروض الملعونة ومناقصات الجيش والقوات المسلحة، ولا عن التسهيلات والفُرص الذهبية التي أحتكرها حيتانُ البلد الأشاوس، ولا أتحدّث عن رمزية الكعكة في عرف العصابات الكبيرة، ولا عن نسبة الكحول في دماء زعيم العصابة، بدءاً بالتعميد الاستخباراتي في جيبوتي، مروراً بهدية الصين الزجاجية العملاقة، وانتهاءً بنكهة خطابه الأخير حين اختار -بنفسه- إراقةَ روحه على قارعة الغدر، حين السقوط مذموماً مدحوراً في قعر مشواره المكتظ بالخيانات الدميمة (وهو قعرٌ مجازيٌّ؛ لأنَّ سقوطاً كهذا ما له من قرار).
وأخيراً.. لا أتحدّث عن السقوطِ في سقوطه الأخير، ولا عن خطيئة الهاوية، ولا عن هُوّة الغدر القَميئة التي تليق بخائن متعدّد الأغراض والوجوه.
خائن.. كان ينبغي قبلَ حولين أن يعودَ إلى مستقره في أسفل سافلين، بَعيداً عن متناول الأغراب والطامعين، فـ “الرجلُ المناسبُ في المكان المناسب”.