الكتابة والسياسة بين الترف والضرورة
إبراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن السياسة غالبا ما توصف بالقذارة، وكان من الأهمية بمكان ضرورة الفصل بينها وبين الأدب، خاصة حين تزعم السفهاء والطلقاء السياسة، وارتاد الشرفاء والمفكرون مجال الأدب، وحين أدركتهم حرفته بالفقر، أصبح الأديب والمثقف أما مسبحا بحمد السلطة ومقدسا لها، مطبلا وبوقا من أبواقها القذرة، وأما مهمشا محاربا في لقمة عيشه، تلاحقه عيون الجواسيس، وتحتفل به تقارير الرقباء، وتصل العلاقة بينه وبين زنازن السجون حد الألفة والاعتياد، نظرا لكثرة زياراته لها، واختلافه إليها، ومن هنا نشأت فكرة الصراع – الغير مجدي – بين المثقف والسياسي، وأصبح الخوض فيها خطرا على حياة المثقف بالذات، وهذا بدوره يجعلنا نتساءل:- لماذا نكتب؟ وعن ماذا؟ وأين تقع السياسة من تفكيرنا وتناولاتنا؟ وما الذي يحملنا على الخوض في مواضيع السياسة، رغم أننا لسنا من أصحاب الاختصاص، وأن كتاباتنا لن ترغم الساسة على تبني ولو جزئية بسيطة من رؤيتنا؟
إذن:- لمن نكتب؟!!
قد يقول قائل – وهذا هو القول الرائج – ما كان أغنانا عن كل هذا الألم الذي أصاب مشاعرنا بالتصحر وأحاسيسنا بالتبلد وأرواحنا بالجفاف فتساقطت أيامنا في أتون عدوان ظالم وحرب طاحنة لا نكاد نستوعب فجيعة إلا ولحقتها أكبر منها، ولا نكاد نبتلع مأساة إلا وتلتها أعظم منها، وأصبحنا لعبة تتقاذفنا سياسة الضربات المتلاحقة، فلا نكاد نفيق حتى نفقد الوعي مرة أخرى.
كنت فيما مضى شاعرا، أكتب القصائد لعيون حبيبتي، وأشكو إليها حاكما ظالما وحكما استبداديا، وأيادٍ خفية تتحكم بالقرار في هذا الوطن، وكنت ألوذ بالحلم كي يعصمني من تسلط العسكر، وعيون مخابراتهم وعنجهية حثالاتهم، وأعوذ بالله أن تلحظني شكوكهم الغبية أو تدركني رغباتهم الإجرامية، أو تحيطني قراراتهم التعسفية، فأكون قربانا لمكافأة جشع، أو ضحية لترقية بليد، دون أن يرف لهم جفن أو تلحقهم ذرة أسف.
كنت أتحدث عن فجر موعود، وحلم جميل وردي، وزمن مثل “مصطفى” البردوني، سيأتي يمحو الزمان المزيف.
وكنت أبرر ما نحن فيه – معشر المثقفين وحملة الفكر – من خنوع وخضوع وصمت، بكونه حالة عامة شاملة لمختلف البلدان العربية، التي تدور في المدار الاستلابي ذاته، وكنت أمني نفسي بيوم سيأتي، يبدد كل تلك الظلمات والضياع والتيه، وتنتصر إرادة الشعوب، وتنعم بحقها في الحرية والسيادة، ورغم أن ذلك كان من رابع المستحيلات آنذاك، نظرا لهيمنة السفارات بقبضتها الحديدية، على كل مفاصل وتفاصيل وجزئيات حياتنا، وإحصائها لشهقاتنا وزفراتنا، التي كانت تفسر – غالبا – بأنها ضد امريكا ودول الجوار، وأنها معاداة للسامية ورفض لمبدأ التعايش والقبول بالآخر، ولذلك كنا نسأل الله أن يكفينا شر تأويل زفراتنا، وأن يجعلها منخفضة إلى أدنى درجات الاشتباه، وما أكثر أولئك الذين كانت الطائرات الأمريكية تقتلهم بحجة الاشتباه، ثم يتبين لها فيما بعد أن من قتلتهم كانوا أبرياء، ومثلما كان فرعون يذبح الأطفال خوفا من تهديد محتمل لحكمه، كانت امريكا – ومازالت – تقتل خوفا من تهديدات إرهابية محتملة، تقلق أمنها، وفي كلا حالتي الفرعنة والاستكبار والغطرسة، لم يتوقع أولئك الطغاة، أنهم بفعلهم الإجرامي، وقتلهم الناس بغير حق، إنما يستنزلون لعنة الله عليهم، ويستعجلون غضبه ونقمته، ويسعون إلى زوالهم، ويصنعون نهايتهم المخزية بأيديهم.
كان الوضع الحياتي صعبا ومزريا ومأساويا، والناس يعيشون حالة ضياع جماعي، وعمى وتيه واستلاب واستسلام للغاصب الظالم المستبد، تماما مثلما تصوره أفلام الزومبي، من حالات الغياب الجمعي عن الوعي.
كان الوضع معقدا للغاية، وكان الخروج منه وتجاوزه أشبه بالمعجزة.
وبعد شروق الفجر الموعود، وتحقق حلم الخلاص، وسطوع شمس الحرية، وإطلالة عهد الكرامة والسيادة والاستقلال، تكالبت علينا قوى الاستكبار والهيمنة، وسعت لإعادتنا إلى سيرتنا الأولى، بكل الوسائل والطرق التآمرية، وصولا إلى التدخل المباشر، وتبني حرب إبادة شاملة بحق شعب كامل، وعدوان سافر بقيادة تحالف عالمي، وتواطؤ وصمت وتخاذل من لم يشارك علنا، حتى أصبحنا فضاء مفتوحا لعربدة طيرانهم، ومكانا مباحا لتجربة القوة التدميرية لأسلحتهم الفتاكة، وأهدافا بشرية لممارسة توحشهم، وأساليبهم البشعة في قتل النساء والأطفال والشيوخ، وتعمد استهدافهم في كل محفل وسوق وتجمع، دون مراعاة لما يسمى في قانونهم محظورات الحروب، ودون خوف من مساءلة أو عقاب قد يطالهم، نتيجة ما ارتكبوه من جرائم حرب وعمليات إبادة جماعية، ظنا منهم أن تحالفهم الاستكباري، سيجعلهم بمنأى عن العقاب، وأن بإمكان أمريكا حمايتهم إلى الأبد.
انطلاقا من ذلك الواقع، الذي صار لزاما علينا ان نعيش تفاصيله، ونحيا كل أحداثه ومتغيراته، صارت الكتابة فرض عين، على كل من يستطيع ذلك، في سبيل الانتصار لهذا الشعب المظلوم، وتحصينه بالوعي والقيم والمبادئ، وتعزيز صموده واستبساله والإشادة بتضحياته، وتدويل مظلوميته بين مختلف شعوب العالم، وخاصة المناهضة للهيمنة الامبريالية، وتوثيق كل تلك الجرائم والفضائع للأجيال القادمة، وللتاريخ الإنساني عموما.
كيف أكتب قصيدة غزلية في حبيبتي، وأنا لا أستطيع حمايتها من صواريخ وقنابل العدوان، وأنا لا أستطيع تأمين لقمة العيش لها، كحد أدنى من متطلبات وضروريات الحياة.
كيف أكتب عن سحر الشروق وجمال تفتح الأزهار وإطلالة الصباح، وهناك أطفال بعمر الزهور وأصغر من ذلك، قضوا نحبهم، قبل أن ينعموا بذلك الصباح، وانطفأت أرواحهم قبل اتقاد شمس يومهم، وتحت أطلال الركام، تختبئ حكاياتهم طاهرة، بعيدة عن دنس النفوس اللئيمة، وجبروت المستكبرين الغازين، لتعلن في ضمير العالم الحي، عن أولى هزائم هؤلاء الفراعنة، الذين وإن نالوا من أجساد الطفولة البريئة، إلا أنهم هزموا أمام طهارتها، وعجزوا عن النيل من أحلامها، وطوتهم لعنة أبدية بما اقترفوه بحقها.
كيف أكتب عن جمال الطبيعة، بينما صواريخ العدوان تحرق الوطن بأكمله.
كيف أكتب عن الحب والسلام، بينما نشر ثقافة الكراهية والعنصرية والعنف، هي الأبواق التي تنفخ من خلالها ماكينة الاعلام المعادي في روح الثقافة وجسد الوعي الجمعي.
كيف أكتب عن ثقب الأوزون، وأتجاهل من خرق وطنا ليغرق أهله، بكل أنانية وعنجهية، وقال لا ضير إن مات عشرون مليون إنسان يمني، مقابل أن يعيش هو وأمثاله الخمسة ملايين حثالة ومرتزق وعميل.
كيف أكتب عن عدو وهمي، وحرب الفضاء الافتراضية، وأغض الطرف عن عدو حقيقي، وإجرام فعلي، وحرب إبادة متوحشة شاملة.
كيف أكتب عن تعثر عمليات النظافة، وأترك من كان سببا في تعطيل كل مظاهر الحياة في وطني، وكان سببا في انتشار الأمراض والأوبئة، التي تفتك بأخوتي وأخواتي وأبائي وأمهاتي وأبنائي وبناتي، على امتداد رقعة المحافظات المناهضة للعدوان.
كيف أكتب عن تمثال الحرية، دون أن أشعر بلذة الحرية ذاتها، وكيف أصدق بأن من يحتفي بالحرية كتمثال، قد يمنحني حريتي في يوم من الأيام، بل كيف سأتحاشى الحديث عن مظاهر العبودية والهيمنة والاستلاب، التي تمارسها أمريكا – صاحبة تمثال الحرية – ضد الشعوب المستصعفة.
كيف يريدون مني تجنب المواضيع السياسية، والكتابة عن مواضيع اجتماعية، تجنبا لعواقب التدخل في الشئون السياسية، ولا أدري أي عواقب قد تحصل أكثر مما هو حاصل، ولا ما هي المواضيع الاجتماعية، التي بإمكاني الكتابة عنها.
هل أكتب عن موضوع العنوسة مثلا، وهل أستطيع الكتابة عنه دون أن أتطرق إلى سبب انتشار ظاهرة العنوسة، وأن اليد الطولى في ذلك هي للعدوان وحربه الظالمة، التي حصدت أرواح شباب هذا الوطن.
أم هل أتحدث عن ظاهرة الغلاء، التي تسبب بها العدوان والحصار، وفاقمها المرتزقة والعملاء، الذين يعملون على تدمير الاقتصاد الوطني تدميرا ممنهجا، وينهبون الثروات لصالح أسيادهم في دول العدوان.
أم هل أكتب عن الإخاء ووحدة المجتمع، الذي استهدفه العدوان ومزق أوصاله، وسعى للنيل من وحدة الصف الداخلي بكل الوسائل والسبل، وعزز التفرقة وبث روح العداء الطائفي والعنصري بكل أشكاله.
أم هل أتحدث عن أزمة الوعي وفقدان الشعور بالانتماء والهوية، التي سعت مملكة آل سعود ، ومن ورائها امريكا والكيان الصهيوني، خلال عشرات السنوات إلى تغييبها عن الوعي الجمعي، وتكريس حالة الاستلاب للآخر، وتعميم حالة الشعور بالنقص والدونية، في أوساط المجتمعات العربية، والمجتمع اليمني على وجه الخصوص.
لم تعد السياسة شيئا خارجا عن حياتنا، وعن تفاصيل ومفردات همومنا وتفكيرنا، بل أصبحت السياسة جزءا لا يتجزأ من حياتنا وتكويننا وتفاصيلنا، وأصبحنا نحن بالمقابل جزءا كبيرا من تكوينها وتفاصيلها وتاريخها،
كما أن الكتابة لم تعد ترفا أو ضربا من اللهو والتسلية وتزجية الوقت والفراغ، بل أصبحت حاضرنا وتاريخنا ومستقبل أجيالنا، وأشرف مهنة يجب أن نحترفها، وأقدس عمل نقوم به في سياق مقاومة المحتل، ورفض الغازي، وكشف مؤامراته ومخططاته، وتعريه نواياه وأطماعه وخبثه ومكره، وتحصين البسطاء ضد إشاعاته وتلفيقاته وأكاذيبه، التي يوظفها لاستغلال البسطاء وعامة الناس، ليجعلهم وقودا في سبيل تحقيق مصالحه، غير مبالٍ بما سيئول إليه مصيرهم، ولا يهمه من شأنهم إلا بمقدار ما يحققه وجودهم من مكاسب ومصالح في أرقام أرصدته، ولا يتورع عن تصفيتهم بنفسه، إن رأى عدم جدوى وجودهم وانتهاء صلاحية عمالتهم وارتزاقهم.
من لم يكتب عن الأنسان المذبوح من الوريد إلى الوريد، والمقتول قصفا وحصارا، فعن أي قضية إنسانية سيكتب؟!!
ومن لم يكتب عن تضحيات هذا الشعب العظيم، وعن شهدائه الكرام الأبرار، الذين فاقوا بعطائهم كل عطاء، وعن الجرحى الذين بذلوا أعضاءهم لله وفي سبيله، ونصرة للمستضعفين، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، فما هو الشيئ الذي هو أعظم وأجل وأكبر من هؤلاء العظماء الشرفاء.
ومن ظن بقلمه وعلمه، ونكص على عقبيه في هذه المواجهة الكبرى، فليعلم أن الله قد طبع على قلبه، وأنه من الظالمين.
ومن لم يكتب الآن، فمتى سيكتب؟!!!!!!!!!!