عملية( البنيان المرصوص) انتصارات عسكرية ورسائل سياسية
ابراهيم محمد الهمداني
يصعب الحديث عن عملية(البنيان المرصوص) بما تنطوي عليه دلالاتها العميقة، وأبعادها الاستراتيجية الآنية والمستقبلية، سياقها الزمني والأحداثي الخاص، المحصور في راهنيته وزمنه الحاضر، لأن هذه العملية العسكرية، لم تكن وليدة اللحظة، وإنما هي نتاج تمخضات أحداث ماضوية سابقة، تترابط فيما بينها بعلاقات سببية – يرتبط فيها السبب بالنتيجة – أو تفسيرية – حيث تفسر الحدث تداعياته وحيثياته – أو لزومية، توضح طبيعة التلازم المنطقي، بين حيثيات الحدث ومقتضيات تحققه وتداعياته.
تُعد عملية(البنيان المرصوص) في أبعادها الاستراتيجية العسكرية والسياسية، تتويجاً لمسيرة صمود ومواجهة عدوان عالمي إجرامي متوحش، لها دلالاتها ومعانيها ورسائلها المحلية والإقليمية والدولية، ولذلك يمكن القول إنها تمثل رد الفعل المنطقي، الذي تقتضيه عريزة الدفاع عن النفس، وحق البقاء على قيد الحياة، كما إنها تفسر ما سبقها من أحداث ومواقف، بوصفها نتيجة لما سبقها، وسبباً فيما سبقها من تداعيات وأحداث، على الصعيد الداخلي والخارجي.
إن قراءة عملية(البنيان المرصوص) العسكرية في سياقاتها ومساراتها المختلفة، تقتضي إعادتها إلى سياقها الماضوي العام، المرتبط بعملية(نصر من الله)، التي كسرت كل الرهانات والتوقعات، وقلبت كل موازين الصراع، وحطمت كل المعادلات السياسية والعسكرية المرسومة سلفاً، وفيها تجلت على أيدي رجال الله، مصاديق وعده لعباده المستضعفين، وجنده المؤمنين المخلصين، وحقيقة سنته في أرضه، وكان محور نجران – بماله من أهمية جغرافية سياسية وعسكرية – مكان ذلك النصر الإلهي العظيم، الذي أذهل العالم، ونكَّس هامات الجبابرة، ومَرَّغ أنوفهم وكسر جبروتهم وغطرستهم، وقدَّم المجاهدين في أبهى صور الثبات والإقدام ومواقف الاستبسال والتضحية، والتواضع وكرم الأخلاق وعظمة التربية القرآنية، وأرقى النماذج الإنسانية، ذات النهج المحمدي العلوي، في التعامل مع الخصوم قبل وبعد المعركة، فأضافوا أعظم الانتصارات الأخلاقية، إلى عظمة الانتصارات العسكرية، ومثلت تلك العملية رافعة قوية في مسار محور المقاومة، بشكل عام، وأصبح أنصار الله هم سادة المشهد السياسي والعسكري، ومركز الحدث والتغيرات، ومحور الخطاب الإعلامي، الأمر الذي انعكس سلباً على صورة ومكانة وهيبة وترسانة دول العدوان الصهيوسعوأمريكي، ووضعها في زاوية بالغة الحرج، بسبب هزيمتهم النكراء المخزية، التي لم تكن متوقعة بأي حال من الأحوال، بل كانت من سابع المستحيلات.
وفي الجانب المقابل خيم الذهول والدهشة، وهول الصدمة على صورة الموقف العالمي، فلم يكد العالم يبتلع صدمة مفاجأة ضرب أرامكو من قبل الجيش اليمني واللجان الشعبية – بالطيران المسير، حيث استطاعت عشر طائرات مسيَّرة، إخراج مصفاتي بقيق وخريص عن الخدمة، وإصابتها بالشلل، وتعطيل ما يقارب نصف القدرة الإنتاجية من النفط، وكان لهذه الضربة صداها، وأثرها الانعكاسي السلبي على الاقتصاد العالمي بشكل عام.
علاوة على سقوط أسطورة منظومات الدفاع الجوي(الباتريوت)، وعجزها عن حماية نفسها، ناهيك عن حماية المنشآت والمرافق الحيوية السعودية، وسقوط وتعرية مزاعم الحماية الأمريكية للسعودية خاصة وممالك الخليج عامة، التي تتخذها الإدارة الأمريكية ذريعة لابتزاز و(حلب) المملكة السعودية وأخواتها، التي استمرت في تلقي مسلسل الصفعات، من سقوط الهيبة والمكانة، إلى إهانات ترامب وابتزازه المتواصل، إلى تخليه عنهم، وإعلانه أنه غير مستعد لخوض حرب من أجل ملوك الخليج، ورغم تخلي أمريكا عن حلفائها وعملائها صراحة، وتنصلها عن مهمة حمايتهم علناً، إلاَّ أنها استمرت في عملية الابتزاز والحلب ونهب ثروات ونفط وأموال شعوب الخليج، بذات الخطاب الإعلامي المستهلك، ومزاعم الحماية الفتراضية.
حملت ضربة أرامكو رسائل كثيرة، واسعة الدلالة، بالغة العمق، لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد، وكذلك كانت عملية( نصر من الله) في محور نجران، في دلالاتها الزمانية والمكانية والإنجازية، لتفصح عما هو أكبر، و تؤكد أن القادم أعظم، وأن مسألة الحسم العسكري، مرهونة بالقرار السياسي، ومتوقفه على رؤية وتوجيهات القيادة الحكيمة، فمتى ما أطلقت إشارة الحسم تحقق ذلك على الوجه المطلوب، مما يؤكد – أيضاً – أن تلك الانتصارات العظيمة، لم تكن اعتباطية، أو من صنع المصادفة، أو قذفت بها استراتيجية الكر والفر، والانسحاب التكتيكي المزعوم بعد كل هزيمة، بل هي – بعد فضل الله وتمكينه – مكاسب عسكرية ميدانية كبيرة، بذل رجالُ الرجَال في سبيلها التضحيات الجسيمة، وقدموا أرواحهم قرابين لله وفي سبيله، فاستحقوا نصره والانتصار به، وتأييده وتمكينه، وصدق وعده لجنده وأنصاره، ليتم بهم وعلى أيديهم نوره، ولو كره الكافرون.
ومن منطلق القوة، ومكانة المنتصر، وموقع المسيطر على مسار المعركة وميدان المواجهة، وبمنطق التواضع، وأخلاق مدرسة آل البيت عليهم السلام؛ والرغبة في إحلال السلام، بعيداً عن الاستسلام لنشوة النصر، ونزعة الانتقام، والتعالي على المهزوم، وقف المجلس السياسي الأعلى في ذروة انتصاراته، معلناً مبادرات السلام الواحدة تلو الأخرى، القائمة على الحلول العادلة المرضية لكل الأطراف، ليرسم بذلك صورة الانتصار الأخلاقي قبل الانتصار العسكري، وهو ما عجز تحالف العدوان وأدواته عن تحقيقه وامتلاكه، مؤكداً إفلاسه الأخلاقي والقيمي، وانسياقه وراء أحقاده، ونزعته إلى الانتقام، وتحلله من أي ضوابط أو قيم أخلاقية أو دينية، مؤكداً أن تزعمه للحرب والعدوان على اليمن، من أجل القتل والتدمير والتسلط، لا غير.
حققت عملية (البنيان المرصوص) إنجازات نوعية، خارقة للعادة ومتجاوزة لكل التوقعات والحسابات، على مختلف المستويات والأصعدة، وأسفرت عن نصر إلهي عظيم، تظافرت فيه استراتيجية المكان، بما له من أهمية قصوى في مسار المعركة، مع عظمة الإنجاز جغرافياً، بمساحة تقدر ب ٢٥٠٠ كم٢، وعسكرياً في هزيمة ودحر أكثر من سبعة عشر لواءً عسكرياً، وأكثر من أربعة وعشرين كتيبة، واغتنام كامل عتادها، بما لذلك من انعكاسات على المستوى النفسي والمعنوي، بين جنود تحالف العدوان ومرتزقته، وصدى على المستوى السياسي والإعلامي العالمي.
كانت جبهة(نهم)ورقة الرهان الرابحة بالنسبة لتحالف العدوان، ولذلك وضع فيها كل ثقله وقواته ومرتزقته، وجهزها بأحدث وأفتك الأسلحة والمعدات العسكرية، فمن خلالها كان يحلم بالدخول إلى صنعاء واحتلالها، وما تلك الألوية والكتائب الهائلة، والعتاد الضخم، والتجهيزات اللامحدودة، إلاَّ صورة لاستراتيجية تحالف العدوان ومرتزقته، واستماتته في التشبث بذلك النطاق الجغرافي الكبير، بوصفه البوابة الشرقية للعاصمة صنعاء، حيث وقف تحالف العدوان قاب قوسين أو أدنى، وظل على مدى خمس سنوات، يبني جبهة “نهم” ويحشد المقاتلين إليها من كل مكان، ويزودها بمختلف الأسلحة، والاحتياجات والمستلزمات الضرورية لخوض المعركة الكبرى، في إطار الاستعدادات المسبقة والمتواصلة.
إن ما بناه تحالف العدوان في جبهة “نهم” خلال سنوات، قد هدمه أبطال الجيش واللجان الشعبية، في غضون أيام قليلة، واسقطوا في عملية(البنيان المرصوص) أدوات تحالف العدوان ومرتزقته من حزب الإصلاح، وقذفوا بهم بعيداً عن بوابة صنعاء الشرقية، كما أسقطوا من قبل في عملية( نصر من الله) بجبهة نجران، أدوات العدوان وعملائهم من السلفيين والتكفيريين، وبهذا لم يعد أمام تحالف العدوان سوى ورقة الرهان الأخيرة، المتمثلة في التصعيد في جبهة الساحل الغربي، وتفجير الوضع في الحديدة، من خلال أدوات الإمارات المرتزقة العفافيش، الذين يمثلون الضلع الثالث، في مثلث العمالة والارتزاق والخيانة، وإزاء تصعيد حمار الامارات العفاشي، ستكون المعركة حاسمة وقاصمة، بعون الله وتمكينه، وسيضرب السيد القائد بعصاه البحر، ليهوي في أعماقه أعتى فراعنة العصر المستكبرين المعتدين المجرمين، وتسقط آخر أدوات العدوان وأحقرها، في أتون هزيمة نكراء، ولعنة أبدية وخزي عظيم، طعماً للبحر المسجور، وعندها ستسقط ممالك الرمال تلقائياً، وتتلاشى رسمياً، ومن خلفها حليفها الأمريكي، الذي سينهار اقتصادياً، بسبب انقطاع النفط، ويسقط مباشرة، ربما قبل أن يتمكن من خوض أي مواجهة عسكرية، ضد أبطال الجيش واللجان الشعبية، تجعل لسقوطه قيمة، ولهزيمته معنى.