خيانة عظمى بقرار رسمي الراقص على خداع المساكين
ابراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن معظم الأنظمة العربية، التي تلت حقبة الاستعمار، لم تكن غير أداة من أدواته، وصنيعة من صنائعه، حكمت نيابة عنه، وعملت على تحقيق وتنفيذ مخططاته، والمحافظة على مصالحه، فكانت تلك الأنظمة الوجه الآخر للمستعمر الغاصب، ولكن بصورة وصيغة محلية، تجعله أكثر قبولا، وتقطع أصابع الاتهام، التي قد تشير إليه يوما ما، وليس أدل على ذلك طبيعة العلاقات السياسية والدبلوماسية، التي نشأت بين قيادات الشعوب العربية المستعمرة ومستعمريها، ومحاولات إقناع الشعوب المغلوبة، أن عدو الأمس قد أصبح صديق اليوم، وأن جرائم ومجازر الأمس قد تحولت اليوم إلى منح ومساعدات، وأن من قتلوا ودمروا وشردوا وانتهكوا الأعراض والحرمات والمقدسات، قد عادوا إلينا اليوم حاملين تمثال الحرية، ومسودة حقوق الإنسان، ورغم أن مساحة حريتنا عندهم، لا تتجاوز جمود التمثال، وهامش حقوقنا المكفول لديهم، لا يتجاوز حدود المسودة، التي لم تعتمد بعد، ومازال خاضعة للمحو، علاوة على كونها حبرا على ورق.
كانت مهمة تحسين وتجميل صورة الاستعمار، وتهذيب قبحه وإجرامه، إحدى مظاهر الخيانة التي ارتكبتها الأنظمة العربية بحق الشعوب، وتلى ذلك الترويج لمفاهيم المستعمر، بوصفها الأسس الصحيحة لرسم مسارات الحياة المثالية، والنموذج الغربي، فكان مصطلح “الجمهورية” تجسيدا لأقبح وأقذر الملكيات، ومفهوم “الديمقراطية” دليلا على حقيقة الديكتاتورية والطغيان السلطوي، و “الانتخابات” أقذر وسيلة لمغالطة الشعب، وتكريس الحاكم المطلق، وحرية الرأي أكبر خدعة لا متصاص غضب الشعوب، ومناهج التعليم أبشع وسائل اغتيال العقول، ووسائل الإعلام أعظم المصانع وأسرعها في صناعة الأتباع والإمعات، وتمييع العقول.
لم يكن الشعب اليمني الكريم بمنأى عن تلك المخططات الاستعنارية، ولكن أحداث 26 سبتمبر 1962م، غير التمهيد الفعلي لذلك، والباب الذي فُتِحَ على مصراعيه، لمشاريع قوى الهيمنة الاستعمارية، وجعلها ساحة مفتوحة لقوى الاستعمار وعملائه، الذين تسابقوا لإعلان الولاء والطاعة للمستعمر الأمريكي والبريطاني، ومن خلفها الكيان الصهيوني الغاصب، كما تسابقوا في إبداء مهاراتهم في تحقيق أكبر قدر ممكن من المشاريع والمخططات الإمبريالية، وربما نستثني من أولئك، الرئيس الشهيد الحمدي، من لعب ذلك الدور الخياني المشين، حيث قدم روحه ثمنا لرفضه الانصياع للمستعمر الأمريكي ، ومن يقف خلفه.
لعب علي عفاش دور البطولة الأقبح والأقذر في تاريخ الإنسانية جمعاء، وتسيَّد مناصب الحقارة والانحطاط، ومثَّل وجسَّد الخيانة بكل مستوياتها وأشكالها، حتى أصبح ملك مسرح العهر والنفاق السياسي، فلم يكن قتل الرئيس الحمدي بداية ظهور ذلك الخائن الصاعد، وطريقة إلى الشهرة، كما لم تكن حلقة الثاني من ديسمبر ……… هي آخر ظهور لنجم الخيانة الأكثر شهرة، والأقبح جرما، والأصلف وجها، فمسلسل خياناته مازال يلد القذارات، أمثال طارق عفاش وأشباهه، وسجل إنجازاته مازال حافلا بمشاهد انحطاطه الأخلاقي والقيمي والديني، وصور عريه وابتذاله المهين، وحضوره المخزي.
إن لم يكن كذلك فما معنى أن يسمح رئيس دولة، تتمتع بالسيادة والاستقلال، بتدمير منظومة الدفاع الجوي الخاصة ببلده، نزولا عند رغبة أمريكا، بل ويعمل على تسهيل ذلك بشكل رسمي، ويجعل من ابن اخيه، عمار عفاش، وسيطا لإقناع وزارة الدفاع اليمنية، ومساندا لعاهرتين في الجيش الأمريكي، بعثتهما أمريكا للإشراف على تنفيذ المهمة، لأن أمريكا لم تكن لتثق بخونة من هذا الطراز، لذلك بعثت من يمثلها لتنفيذ تلك المهمة، تمهيدا لتنفيذ مخطط اليمن من قبل أمريكا، وكل ذلك بمساعدة وتسهيل من سمى نفسه “الراقص على رؤوس الثعابين” ، رغم أن لا وجود لثعابين سواه وحاشيته، ولم يكن وجوده على رأس السلطة في اليمن، سوى شرطي يعمل لحساب أمريكا، فيشن الحروب الست المتتالية ضد أبناء مدينة صعدة، تلبية لرغبة أمريكا، وتهدئة لمخاوفها من الشعار وما بعد الشعار، ويقود حربا ثقافية وفكرية واقتصادية أمريكية صهيونية، ضد أبناء الشعب اليمني، ويفتح الباب على مصراعيه للقوى الاستعمارية، تحت غطاء اتفاقية محاربة الإرهاب، وجعل من اليمن ميدانا مفتوحا للجماعات الإرهابية، التي صنعتها وأشرفت عليها ومولتها ودربتها الولايات المتحدة الأمريكية، كما عمل الراقص على دماء المساكين، وخداع البسطاء، على إفراغ اليمن أرضا وإنسانا من كل مقومات البناء والنهوض والقوة.
لم تكن خيانة عفاش خيانة مفردة واحدة، جاءت عرضا هكذا بالمصادفة، أو بفعل الضرورة، أو نتيجة خطأ غير مقصود، أو نزولا عند إغراء، أو خوفا من تهديد، أو تفاديا لمخاطر أمنية، أو في سبيل تحقيق مصالح سياسية واقتصادية، يربح الشعب فيها أكثر مما خسر، بل هي خيانة مركبة من متوالية كبيرة من الخيانات المتسلسلة المترابطة، التي أثبتت حقيقة التآمر الرسمي على الشعب اليمني، وطبيعة الخيانة السلطوية العليا بحقه.
ويمكن القول إنها خيانة سبقتها وهيأت لها عدة عوامل أو خيانات عفاشية، قام بها عفاش، لكي يتمكن من الوصول إلى مرحلة تدمير قوة الدفاع الجوي، ومنها:-
1- تعطيل الساحة الوطنية من الجماهير، وإفراغها من قوتها الفاعلة المؤثرة، وسلبها حضورها الإيجابي، وتفريق كلمتها، وزرع الصراعات والنزاعات بين مختلف مكوناتها، وبذلك تم تفكيك البنية الجماهيرية الكلية، وتفتيت واحديتها إلى تعددات متباينة، تطغى عليها المكايدات والمماحكات، التي من شأنها إفراغ الوجدان الجمعي من الشعور بالمسئولية، تجاه القضايا المصيرية الشعبية والأممية الكبرى، والاحتفاء بالقضايا الذاتية والمصالح الفئوية الخاصة.
2- تعميم حالة الاستلاب بين الجماهير، جعلها سمة عامة والترويج لها بوصفها نوعا من الحكمة، بينما خلافها لا يعدو كونه طيشا وتهورا، يؤدي إلى عواقب وخيمة، وقد نجح في إيصال المجتمع اليمني إلى مرحلة متقدمة من التغييب، والإيمان بعدم جدوى التمرد على الظلم، أو محاولة تغيير الواقع.
3- تنويم العقل الجمعي مغناطيسيا، وإدخاله في دوامة الضياع والتغريب، ليعيش حالة انسلاخ عن الهوية، وفقدان الانتماء، ثم يصبح بعدها ضحية شيزوفيرينيا حادة، بين وهم حضاري لا يغني الانتماء إليه، وواقع مبتور عن سياق التطور التاريخي، فتعيش الذات غربة واغترابا نفسيا ووجوديا، محصورة داخل صفرية الزمان والمكان، يتنازعها مستقبل ضاق عن احتواء احلامها، وواقع عجز عن فهم واستيعاب أدني مفرداتها.
4- استطاع رأس السلطة – الخائن علي عفاش – أن يلعب دور الواحد المطلق، الذي لا واحد يشابهه، ولا ثاني له، مكرسا حضوره بصورته المهيمنة، وذاته المتعالية، في العقل الجمعي، من خلال أبواقه الإعلامية، التي جعلت منه الخطيب المفوَّه، والقائد المقدام، والسياسي المحنك، والفارس الشجاع، والبطل الذي لا يشق له غبار، وصانع المعجزات، وباني نهضة اليمن الحديث، ونموذج الكمال، وسبيل نجاة الشعب، في أبوته الروحية المطلقة، وبطريركيته المتعالية حد الألوهية، حتى أصبح أمر تولي غيره الحكم، ضربا من الكفر بالله، واحتمال غيابه عن السلطة – حتى بسبب الوفاه مثلا – كابوسا مرعبا، يقض مضاجع البسطاء، الذين خدعهم بتمثيل دور البطل المخلص، وقناع الوطنية والحرية، حتى وصل بهم الأمر، والحال المزري من التبعية والاستلاب، إلى الهتاف بشعار “ما لنا إلا علي”. .
ترى ما موقف أولئك البسطاء المساكين، وهم يرون من ظنوه زعيما ووطنيا يوما ما، وهو يرقص على دمائهم، وأشلاء أطفالهم، ويعلن إهدار كرامتهم، وإباحة أعراضهم، ويسلبهم أدنى مقومات الدفاع عن النفس، ضد عربدة طيران تحالف العدوان الإجرامي، ويأمر من موقعه في أعلى هرم السلطة، بتدمير تلك الصواريخ، ليدمر معها عزة وكرامة وحرية كل يمني، ويسهل لطائرات العدوان استباحة دماء وأعراض نساء وأطفال الشعب اليمني قاطبة، ويقدم بخياناته العظمى لليمن – أرضا وإنسانا – لقمة سائغة لقوى الإجرام الصهيوسعوأمريكي، ويسعى بكل ما أوتي من قبح وصلف وغدر إلى تمرير صفقة القرن، وبيع القدس قضية الأمة المركزية، تاركا خلفه مسلسلا خيانيا إجراميا، لا يعلم نهاية فصوله إلا الله.
لم تقف حلقة تدمير صواريخ الدفاع الجوي – في مسلسل خيانات عفاشية – عائقا أمام رجال الرجال الأوفياء، الذين قدموا التضحيات، وعملوا ليلا ونهارا على تصنيع وتطوير وإنتاج منظومات دفاع جوي، وطائرات مسيرة، واستطاعوا بجدارة تحقيق معادلة توازن الردع، رغم شحة الإمكانيات، وصعوبة المرحلة، فصنعوا وأنتجوا ما أغناهم عن ” مخزون عفاش” المخزي، ورصيده الخياني القبيح، وحضوره المبتذل في مستنقع الحقارات الملعونة.