الصماد وتأسيس دولة اليمن الحديثة (الحلقة الأولى)
الهدهد / مقالات
حمدي الرازحي
لا تقاس حداثة البناء المؤسسي للدول بمقدار النهضة العمرانية وزخرفة الهندسة الفنية لتصميم الشوارع والمدن، ولا بوفرة الصادرات وتدفق السيولة النقدية لخزينة الدولة، فكل ذلك مجرد انعكاسات طبيعية لحقيقة التحديث الحقيقي لمستوى الخطاب السياسي واستراتيجية بناء الدولة ابتداء من تأسيس الفرد ذاته وامتداداً إلى تحديث العمل المؤسسي بكل مكوناته النظرية والتطبيقية العملية، فلا قيمة لمظاهر حداثية لا تتخللها قيمة حقيقية لجوهر الإنسان وسلامة الفكر وحصافة الخطاب، وهذا ما تحقق بشكل واضح وجلي من خلال تلك المعطيات الجوهرية للمرحلة التي تولى فيها الشهيد الرئيس صالح الصماد (رحمة الله عليه) قيادة المجلس السياسي الأعلى في ظل ظرف استثنائي وأستطاع أن يحقق فيه ما عجز الآخرون عن تحقيقه خلال عقود زمنية متعاقبة.
لم يكن (الصماد) مجرد عابر سبيل على كرسي الحكم شأنه شأن غيره من أباطرة الحكم الذين تعاقبوا على حكم اليمن برتابة دون أن يتحقق من خلالهم لليمن وأهله شيء يمكن للتاريخ أن يستحضره وهو يسرد سِيَرَ العظماء الذين حفروا على صفحات التاريخ منجزاتهم وأرغموا الأجيال المتعاقبة على دراستها وتحليلها والتغني بمآثرهم ليل نهار، ولم يكن (الصماد) ذلك النرجسي الذي يحب التلاعب بوسائل الإعلام لتشيد بمنجزاته الوهمية وأحلامه الوردية عن وهم النهضة والتطور والبناء، ولم يكن ذلك الانتهازي الذي يتسلق على أكتاف الآخرين ليبني مجداً على هياكل الضعفاء والمستضعفين، ولم يكن ذلك الحالم بالخلود في زمن ينخر الفناء فيه عروش أباطرة المشرق والمغرب.
لم يكن الشهيد (الصماد) واحداً من تلك الأصناف التي ذكرت، فهو بكل بساطة رجل المرحلة المتشبع بقيم الدين الحنيف بحكم نشأته العلمية في هِجَر صعدة ومخالطته لعلمائها دراساً ومعلماً ومحاوراً، آمن بالمعرفة طريقاً للوصول إلى الحق والحقيقة فشق طريقه في رحابها لتكون المسيرة القرآنية هي المنفذ الذي عبر من خلاله إلى درب العظماء مجاهداً تحت راية المشروع القرآني وأعلام الهدى الذين نشأ وترعرع على هديهم وسار على نهجهم.
إنه رجل المرحلة الذي جعل من نفسه مشروع شهادة وهو يضع اللبنة الأولى لبناء وتأسيس اليمن الحديث ودولة النظام والقانون والعمل المؤسسي، كان يدرك أن طريقه شائك ووعر، ولكنه كان صلباً في مواجهة جميع التحديات ابتداء من إصلاح جهاز الدولة وتحقيق التوافق الوطني بين مختلف مكونات الواقع السياسي اليمني ومروراً بإعادة ترتيب البيت السياسي اليمني ومؤسساته العسكرية لتكون بحجم الوطن بعد أن عاشت كمجاميع مبعثرة هنا وهناك تدين بالولاء لأشخاص دون أن تدرك بأن الوطن أولى بذلك.
كل كلمة نطق بها الشهيد الصماد في جميع المحافل التي شهدها كانت موضع دراسة وتحليل من قِبَل أجهزة الاستخبارات العالمية وعلى رأسها أجهزة تحالف البغي والعدوان السعودي الأمريكي على اليمن، لأنها كانت بمثابة الشرارة الأولى لمولد الوعي السياسي الهادف إلى البناء والتحرر والاستقلال، وهذا ما لا ترغب في تحقيقه مملكة آل سعود، لأنها من صنعت الإطار السياسي لليمن على امتداد العقود الماضية ورسمت مساراته التي تضمن تبعية اليمن لها لتنهب خيراته وثرواته وتتحكم في سيادته واستقلاله، فكان لكلمات الصماد الشهيد ومواقفه الخالدة وقعها في نفوسهم، فهي بمثابة الإعصار الذي يزعزع عروشهم المتهالكة القائمة على الأسودين الحقد والنفط.
لم يكن الشهيد الصماد مجرد شخص عادي، ولكنه كان مدرسة متعددة الحقول والمجالات، فهو رائد في مجال الفكر الديني، وسياسي حنكته التجارب والمحن، وقائد حر تربع على عرش العزة والكرامة في زمن الانبطاح والتبعية، واسع القلب حيث استوعب الجميع رغم تباينات الفكر والتوجه، وتعامل مع المجتمع كواحد منهم لا يرى لنفسه ميزة تدفعه للترفع أو التكبّر عليهم، وفارس أعاد إلى الأذهان بطولات عمار بن ياسر والأشتر فله في كل ميدان صولة وجولة، وبصماته على صخور اليمن في سهولها وجبالها خير شاهد على ذلك.
ولكم أن تتساءلوا بعد كل هذه العبارات (بأي ذنب قُتِل؟) … يتبع