بين أنصار الله وحزب الله (نظرة في نموذج السياسة الإسلامية)
تتنوّع الأنظمة السياسية المُعتمَدة من قبل الدول والحركات والأحزاب في العالم، فينهج بعضها على أساس النظام الديمقراطي، وبعضها الآخر الشيوعي، وثالث يتبنّى نظاما هجينا من النّوعين المتقدّمين، ومنها ما يعتمد نظام الإسلام السياسيّ، وفي خضمِّ هذا المعترك المُعقَّد من الأنظمة السياسيّة السائدة انبثق نظام جديد من نوعه طرحته الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، وهو ما أطلق عليه الإمام الخامنئي “السيادة الشعبية الدينية” كصياغة تعبر عن “السياسة الإسلامية” وتنسجم مع الظروف السائدة في إيران كدولة، وبالتوازي مع ذلك اعتُمِدت هذه الصيغة أي “السياسة الإسلاميّة” من قبل أنصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان، ذلك بحسب ما يتناسب مع الظروف السائدة في بلدَيهما.
ومن الأهمّيّة في مكان، أن نشير إلى نقطتين:
الأولى: منشأ الأنظمة السياسيّة، ومؤثرية القِيم في بُنيتها
تقوم الأنظمة السياسيّة على أساس القِيم المتبناة والتي يعتقد بها مؤسسو النّظام سواء قصدوا أم لا، وهذا ما نجده بوضوح عند النظام الشيوعي-الاشتراكي، حيث اعتمد على التّأسيس الفلسفي الماركسيّ لنظامه السياسي والاقتصادي، بينما لا نجد هذا الوضوح عند النّظام الديمقراطي-الرأسمالي الحالي، ولكنّه – قهرا – خاضع لرؤية فلسفيّة معيّنة ومنظومة قيم خاصّة متحكّمة به. فإن النظام السياسيّ الذي يقوم على أساس رؤية إلحادية أو علمانيّة ذات معايير وموازين دنيويّة بحتة، سيكون سلوكه مغايرا تماما للنظام السياسيّ المُستمَدّ من رؤية إلهيّة ودينية تعتقد بأن الحياة غير محصورة بعالم الدنيا وتؤمن بالقيم السّماويّة وتوظّف ذلك في سياساتها العمَلية، خلافا للعلمانية.
الثانية: الفرق بين “السياسة الإسلامية” و”الإسلام السياسي”
ليس الانقسام بين تلك الأنظمة التي ذكرناها في المقدمة انقساما حديا وواضحا، فإنّه في العديد منها يحصل تداخل وجدليّة معيّنة. وكيف كان، أجد من المناسب التّفريق بين نوعين من الأنظمة السياسية في العالم الإسلاميّ، فبعضها (إسلام سياسيّ) يُخضِع كلَّ شيء حتى الدين والقيم للسياسة أو الاقتصاد فتكون السياسة وأنظمتها وقوانينها الوضعيّة حاكمةً ومُهيمنة على بعض التشريعات والقيم الإسلاميّة. وبعضها يُخضِعُ السياسةَ للإسلام، ويكون الحاكم هو القيم والمعايير الإسلاميّة هي السائدة على نظامه السياسيّ، فتكون (السياسة إسلامية) ولا يكون الإسلامُ سياسيًّا.
إنّ قيم العلمانية تتجلى بشكل واضح في النموذج السياسي والإجرائيّ الذي تُقدِّمه الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا في إدارتها الأخيرة التي خرجت من وراء القناع عارية أمام المجتمع الدوليّ. فإنّ هذا النظام بحسب ما خبرناه على مدى زهاء نصف قرن من الزمن يدرس سياساته بذهنية مادية خالصة، فيرى في مصالحه الانتاجية ومطامعه التسويقية سببا كافيا لاستعمار الدول الأخرى والهيمنة على مُقدَّراتها ومواردها الطبيعية. هذا ما شهدناه في غزو العراق وأفغانستان والسيطرة على بعض آبار النفط في سوريا، ودعمها للحرب على إيران واليمن ولبنان واضطهاد الشعوب في دول أمريكا الجنوبية… ولا تتسع الصفحات لسرد الويلات والعذابات التي قاستها الإنسانية على امتداد القارّات جراء السياسات العمليّة لعملاق المادّية والعلمانية في العالم.
هذا، وإذا كانت سياساتُ الإدارة الأمريكية المصداقَ الأبرز للقيم المادية البعيدة كل البعد عن الإنسانية، فإنّ السعودية والإمارات هي المصداق الأوضح لمن يوظف الدين لصالح السياسة… وهذا ما ظهر جليا في عمالتها للإدارة الأمريكية، وشنها الحرب على الشعب اليمني، وتطبيعها مع العدو الإسرائيلي، وتآمرها على الشعوب المسلمة في العالم.
أما أنصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان فقد نهجا على السياسة الإسلامية الآبية للعلمانية والمحافظة على تبعية السياسة للقيم الإسلامية المتعالية (السياسة الإسلاميّة). وسنعرض في ما يلي أهمّ الشواهد التطبيقيّة المؤكّدة لهذه القراءة، ثمّ نستخلصُ النّتيجة:
سياسة التعامل مع المواثيق:
عندما نتحدث عن العهود لن يغيب التفاهم المُبرَم بين حزب الله والتيار الوطني الحر في لبنان (2006) وكذلك اتفاق السلم والشراكة الوطنية بين المكونات اليمنية (2014) والذي وفى أنصار الله ببنوده، وكذلك الاتفاق بينهم وبين حزب المؤتمر (2016)، الذي نكثه علي صالح في ما بعد. لم يَحِد كلٌّ من أنصار الله وحزب الله عن تلك التفاهمات والعهود، بل اشتدّت عرى الاتّفاق بين حزب الله والتيار الوطني الحر وتطوّرت إلى ميثاق وطني. وأمّا علاقات الحزب بحركة أمل في لبنان فلا يخفى أنّها قد تخطّت المواثيق والعهود إلى التّوأمة والاتّحاد في معظم الخيارات والتوجهات.
ولا يُتصور أنّ المتحكّم في ملابسات هذه الاتفاقيات والمواثيق هو الظروف السياسية وتقاطع المصالح فحسب، بل إنّ للمبدأ الإسلامي “الوفاء بالمواثيق” دخالة أساسيّة في تحديد الموقف الصّادق منها، سواء من ناحية أصل الإقدام على الميثاق والعهد أو الالتزام ببنوده وعدم نكثه.
سياسة التعامل مع الصديق:
في الآونة الأخيرة قدم أنصار الله مبادرة تاريخية تدعو النظام السعودي إلى إطلاق سراح معتقلي حركة حماس من سجونه مقابل الإفراج عن طيار سعودي وأربعة ضباط وجنود سعوديين، وتأتي هذه الخطوة كعربون وفاء وإخلاص للشعب الفلسطيني وقضيته الإنسانية، هذا على صعيد الأصدقاء خارج اليمن، وأمّا في الداخل اليمني فستأتي الإشارة إلى كيفية تعاملهم الراقي خلال ثورتهم المُظفَّرة. وأما حزب الله فقد جسد نموذجا في التعامل الصادق مع الصديق والحليف داخل الوطن، ويتجلى ذلك في النصح والتسديد السري دون إخراج النقد عن السقف المألوف ليظهر في الإعلام وهذا ما صرح به السيد حسن نصرالله في خطابه مستشهدا بالحديث الشريف “من نصح أخاه سرا فقد زانه ومن نصحه جهرا فقد شانه”. كما أنّ الحزب لم يتعامل بأسلوب الإملاء حتى مع حلفائه أصحاب المكونات الشعبية القليلة، وقدم احتراما لخيارات الصديق في السياسات التي ينهجها ويعد ما حصل بينه وبين التيار الوطني الحر في الانتخابات النيابية الأخيرة شاهدا على ذلك.
سياسة تعامل الثورة مع النظام السابق:
من يتتبع سيرَ ثورةِ أنصار الله في اليمن سيلاحظ أمرا لم تألفه الثورات في العالم، فقد جرت العادة أن يطيح الإنقلابيون بالنظام السابق ويعيدوا تأسيس نظام جديد، بَيد أن ذلك لم يحدث في الثورة التي قادها أنصار الله، حيث إنّهم لجؤوا إلى مدّ اليد إلى النظام والسعي لإيجاد أرضية صلبة للتعاون لأجل مصلحة البلاد وبناء الوطن.
السياسات المتعلقة بحسن الإدراة وإرساء الأمن:
في ما يتّصل بحسن الإدارة والتطبيق الناجح لإرساء الأمن بين الشعب والجيش وكافة الشرائح، من اللائق أن نعود بالتاريخ إلى ما قبل ثورة 21 سبتمبر ونسلط الضوء على وضع أنصار الله في صعدة. إنّ التجربة الناجحة لأنصار الله آنذاك قد دفعت بعض الخصوم الحاليين من قبيل حميد الأحمر إلى امتداح سياسات الأنصار والاعتراف بالوئام الذي سادها في ظل إدارتهم الحكيمة.
سياسة التعامل مع الخصم السياسي، وكافة المواطنين:
لم يتعامل حزب الله مع الخصوم السياسيين في الوطن على أساس النكايات، بل على أساس المصالح المشتركة التي تعود على الشعب اللبناني ككل بالنّفع دون المسّ بالركائز الأساسيّة كـ “سلاح المقاومة”. فلم يعطِّل تشريع قانون فيه النفع للمواطنين بسبب نكايات سياسية أو تصفية حسابات، ولطالما دعا الأمين العام السيد حسن نصرالله عند الاستحقاقات إلى غض النظر عن أي خلافات هامشية، وهذا ما شهدناه مؤخرا في الاستحقاق الحكومي والاقتصاديّ الذي تمر فيه البلاد. هذا، وعندما دهمت جائحة كورونا لبنان وظف الحزب الكثير من إمكاناته الصحية على صعيد الموارد البشرية والنخب الطبية والتجهيزات اللوجستية في كافة المناطق اللبنانية بمعزل عن التوزيع الديموغرافي والانقسام المناطقيّ الطائفيّ والحزبي.
سياسة التعامل مع العدو المحارب:
على الصعيد العسكري كان يبادر كلٌّ من أنصار الله وحزب الله إلى نصح العدو بالتّسليم والتراجع عن خيار الحرب، وبعد فرضها وشروعها يُمنَح فرصة الاستسلام، هذا ما شهدناه في العدوان على اليمن وفي الصراع على الحدود اللبنانيّة الشمالية والشرقية. كما أنّهم لم يستعملوا في كل مواجهاتهم أسلحة محرّمة إسلاميا وإنسانيا. أضف إلى ذلك أنّ حفاظ القادة على قيمة الصّدق جعلت العدوّ يثق بهم أكثر من ما يثق بجنرالاته، وهذا ما صرّح به الإعلام الإسرائيليّ.
سياسة التعامل مع أسرى الحرب:
نشاهد في ميدان الحرب السعودية الأمريكية على الشعب اليمنيّ التعاملَ الإنسانيّ لأنصار الله واللجان الشعبية مع أسرى قوى العدوان ومرتزقته، وهذه سياسة عملية مستنبطة من روح القرآن الذي يحدد كيفية التعامل مع الأسير ﴿فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ﴾. واللافت هو أنّه عادة ما يُستخف بالقيم الإنسانيّة والتعاليم الفقهية في ساحات الحرب، ولكن أنصار الله واللجان الشعبية قد راعوا ذلك في الأسير والجريح، هذا ما يعكس انضباطهم وإيمانهم العميق. وفي ما يتّصل بحزب الله فقد نفذت المقاومة الإسلامية العديد من عمليات الأسر لجنود إسرائيليين، من قبيل عملية أسر الجنود الثلاثة في منطقة مزارع شبعا المحتلّة، وأسر الضابط الصهيوني ألحنان تننباوم برتبة عقيد، وعملية الوعد الصادق، وقد تعامل الحزب مع الأسير على أساس القيم الإنسانية وما يمليه عليه الفقه الإسلامي، وقد صرح الأسير العقيد تننباوم بأنّه أُخضع للعلاج والاهتمام الصحي خلال فترة أسره.
سياسة التعامل مع الأبرياء:
في عملية تصفية العميل المجرم عقل هاشم، أجل حزب الله العملية مرات عدّة على الرغم من الأتعاب والجهود المبذولة في كل مرة، والسبب في ذلك هو تواجد أُسرة العميل معه في مكان التنفيذ. كما أنّ أنصار الله وعلى مدى خمس سنوات من العدوان لم يتعرّضوا للمواطنين السعوديين الأبرياء بالأذى على الرغم من امتلاك الأنصار للصورايخ البالستية. وفي كلٍّ من هذين السلوكين يتجلى احترام المبادئ والقيم الإسلامية القاضية بقبح قتل الإنسان عدوانا، وحرمة إيذائه ظلما.
سياسة التعامل مع موضوع الشروع بحرب ابتدائيّة:
يشترك كلٌّ من أنصار الله وحزب الله في نقطة أساسيّة وهي أنّه منذ تأسيسهما لم يبتدئا بحرب، وإنّما كل حركتهم كانت لأجل الدفاع والمقاومة وكشف الظلم عن شعبَيهما، وهذا ما يتمخّض من المباني الإسلامية التي لا تجيز الحرب الاعتدائيّة. هذا مع الالتفات إلى أنّ أصل تأسيس كلٍّ منهما يرجع إلى ما ذكرنا من الدفاع عن النفس والأرض والعرض وصيانة الكرامة والعزة، وهو بحدّ ذاته نبراس القِيَم الإنسانية والإلهيّة.
السياسات الإعلامية الإجرائية:
لقد بات الانفلات من الضوابط والقيم هو الصبغة الطاغية على الإعلام في عالمنا المعاصر، ولكننا عندما نشاهد قناتي المسيرة والمنار والمنصات الإعلامية الأخرى التابعة لأنصار الله وحزب الله سنقف على نموذج جديد ونادر يحافظ على القيم الإنسانية والإسلامية ويؤدي رسالة إعلامية خالصة. هذا ما خبرناه على مدى عقود من الزمن في البرامج الهادفة البعيدة عن الابتذال والسخرية، وما يظهر في مراعاة الستر والحجاب.
سياسة التعامل مع المنظمين والقواعد الشعبية:
قدّم كلّ من أنصار الله وحزب الله نموذجا نادرا في التعامل القِيمي مع قواعدهم الشعبية بمختلف الشرائح، وهذا ما يبرز في تعامل القائد بروحيّة الخادم المتواضع لأمته وشعبه، لا بعنوانه أميرا أو سلطانا، وما هذا إلا تجسيد لتلك العلاقة الأبويّة بين القائد وأبناء الأمة. أضف إلى ذلك قيمة المصداقية والشفافية في الخطاب عند كل استحقاق، سواء في الحرب أو الانتخابات أو مكافحة الفساد أو تحسين الوضع المعيشي. ومن الأمور التي لا ينبغي نسيانها الخطاب الرشيد الذي يرفع من مستوى الوعي بالمخاطر المحدقة.
سياسة التعامل مع القضايا الإنسانية سواء في المنطقة أو في العالم:
وقف كلٌّ من أنصار الله وحزب الله مع القضية الفلسطينية منذ الأيام الأولى انطلاقا من مبادئ إنسانية وقيم إسلامية، وآمنوا بها بوصفها قضية الأمة والأحرار في العالم وليست قضية الشعب الفلسطيني فحسب، وهذا ما نجده واضحا في دروس السيد المؤسس حسين بدر الدين الحوثي والوثيقة السياسيّة لحزب الله وخطابات القادة، بل وفي السلوك السياسيّ في المحطات المختلفة. كما وأبرز الحزب مواقف داعمة للشعب اليمنيّ ضد قوى العدوان، وكذلك صدر من أنصار الله دعما للشعب اللبنانيّ في مواجهة إسرائيل، وكلّ منهما دعموا الشعب البحريني والنيجيريّ، بل قدم حزب الله الشهداء في الدفاع عن الشعب العراقيّ في حربه ضدّ داعش ودافع عن المسلمين في البوسنة في مراحل سابقة… كل ذلك بالرغم من الحرب الشعواء التي تفرضها أمريكا وأدواتها في المنطقة على أنصار الله وحزب الله.
ما ذكرناه آنفا هو نظرة مختصرة خاطفة… وصفوة القول، إنّ في السياسات العملية النابعة من معين القيم الإسلامية الظاهرة في سلوك أنصار الله وحزب الله؛ سواء على طاولات الديبلوماسية أو في الميادين العسكرية أو المنصّات الإعلامية، والتي تلاقي نجاحًا باهرًا على الخط الطويل، هي في الواقع شاهد حيويّ وعملي على صلاحية الإسلام الأصيل كنظام للقيادة. لقد باتت تشكل التجربة الناجحة لكل من الحزب والأنصار مدرسة عملية في السياسة الإجرائية والممارسات العملية، وهي دون شك جديرة بالدراسة من الباحثين والمختصّين وكل حركات النهوض في العالم.
هاشم الضيقة