احفاد بلال…. صدق التوجه ونُبل الغاية(3)
ابراهيم الهمداني
تكمن أهمية بناء الإنسان من كونه محور الحياة وركيزة التطور الحضاري، والرافعة الأساس في عملية التنمية والازدهار، والتطورات الملاحقة عبر مراحل تاريخ البشرية، وهذا يفسر اهتمام الشرائع السماوية برعاية وبناء الإنسان كمشروع أساس، في بناء وتطوير وتقدم مسار الحياة الإنسانية، وكذلك هي مكانة الإنسان في المشاريع التنويرية والحركات الإصلاحية المجتمعية الهادفة إلى تفعيل الإنسان كقوة إيجابية فاعلة، واستثمار قدراته ومواهبه وإمكاناته، وتنمية أفكاره وتطويرها، وتمكينه من الإسهام الإيجابي في عملية التطور والازدهار، وتحويله من تموضعه الاستهلاكي السلبي والمستقبل العاجز، إلى تموضعه الإنتاجي والمبادر الفاعل، الذي يمتلك الخبرة والكفاءة، وهذا هو ما هدفت إليه نظريات التنمية البشرية في العصر الحديث، انطلاقاً من الإيمان بأن الإنسان ثروة بشرية، تحوي في أعماقها طاقات هائلة ومواهب فذة وجهود جبارة، يجب أن تُفعل من خلال وضعها في مسارها الصحيح.
إن الخروج عن مقتضى الشرائع السماوية، وتعاليم الأنبياء ومن في مقامهم، أصاب المجتمعات بحالات من التشوه المعرفي والفكري، الناتجة عن طبيعة الانحراف الديني، الذي سعى لاصطناع مبررات لمشروعيته المزعومة، من خلال تبني فكرة الأفضلية، وتكريس نهج العنصرية، وتمثلها في سلوكياته وممارساته وسياساته وتصوراته، مخلفاً بذلك حالة من الإقصاء والتهميش والتمييز بين البشر، على أساس من اللون أو العرق أو الطائفة أو الانتماء، وقد تجلت هذه العنصرية في المجتمع الإسلامي، فيما عُرف ب النزعة القومية القرشية، التي احتج بها عمر بن الخطاب على أهل المدينة يوم السقيفة، والنزعة العرقية الأموية والنزعة السلالية العباسية، وغيرها من مظاهر التمييز، التي تحولت إلى ثقافة مجتمعية وسلوكيات جمعية، ثم أصبحت أعراف وتقاليد وقوانين ناظمة لمسار حياة المجتمع، ونظراً لكونها إرثاً ماضوياً بين الأجيال، فقد منحها ذلك مشروعية وقداسة ومهابة، حصَّنتها من النقد والمساءلة، وكشف حقيقتها المنحرفة عن روح الإسلام الحنيف.
لم يكن (أحفاد بلال)هم الفئة الوحيدة – بين فئات المجتمع – التي تعرضت للعنصرية والتهميش، وعانت ويلات التفرقة والتمييز، فقد تعرض المجتمع الإسلامي لأنواع متعددة من العنصرية، ذات الطابع المناطقي الجغرافي أو العرقي أو السلالي أو القومي، وكان الهدف من تكريس تلك العنصريات هو إضفاء قدر من المشروعية على النظام الحاكم، وتجميل قبح الاغتصاب السياسي للسلطة، وبهذا ندرك أن الدافع الأساس للتمييز والعنصرية هو سياسي سلطوي في المقام الأول.
يقوم المجتمع اليمني على نظام طبقي متوارث، تطغى العنصرية على كافة مظاهره، ابتداءً من اللباس وانتهاءً بالمهن، ورغم أن بعض تلك المظاهر أخذت في التلاشي مع مرور السنين، إلاَّ أن معظمها مازال قائماً، كقانون لا مجال لاختراقه، وحقائق ومسلمات لا مجال لمناقشتها، وانتهاكها ومخالفتها تعد عيباً اجتماعياً كبيراً، تصل عقوبته إلى النفي والطرد والنبذ الأسري و المجتمعي والقبلي والمكاني، وهنا يسقط قناع العنصرية الخفية، التي تظهر بصورة غير واعية، لدى معظم أفراد المجتمع الذين يعلنون التزامهم بقيم التسامح والمساواة، وهولاء يمكن تسميتهم (حماة النظام الطبقي)، الذين يحددون العلاقات ويوزعون المهن.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:- لماذا وقع الاختيار على (أحفاد بلال)بالذات في مشروع البناء الإنساني؟
ليس لأنهم تعرضوا للتمييز العنصري فحسب؛ فهناك غيرهم من طبقات المجتمع اليمني تعرضوا للتهميش والاحتقار والتمييز، وفقاً لقوانين النظام الطبقي السائد، الذي ميَّز كل طبقة عن الأخرى، ووضع آليات محددة للتعامل والتعايش بين الطبقات، ولكن تلك الطبقات حظيت بقدر كبير من الاندماج الاجتماعي والتعايش الحياتي، وكان لها حق المشاركة في مختلف مظاهر الحياة وطقوس العبادة، بينما بقي ( أحفاد بلال) أسرى العزل العنصري المطلق، ورفض المجتمع السماح لهم بالاندماج في مختلف تفاصيل الحياة كغيرهم، وتبرير ذلك بإلقاء التهم الأخلاقية والعقدية الدينية عليهم، وهذا عذر أقبح من ذنب كما يقال، فلو كانوا كذلك فعلاً، فاللوم يقع على المجتمع الذي لم يقم بواجبه الديني والأخلاقي والإنساني تجاههم، وتقاعسه عن القيام بتثقيفهم وتعليمهم، والاندماج بهم ومعهم، والترفع عن استخدامهم كمادة إعلانية فقط، لتحسين صورة الذات، وتصَنُّع التواضع والفضيلة.
انطلقت مؤسسة بنيان التنموية، في كسر ذلك العزل العنصري المطلق، من منطلق الواجب الديني والإنساني، معتمدة على الرؤية القرآنية، القائمة على المساواة بين جميع البشر، دون تمييز بين لون أو عرق أو فئة أو…. إلخ، جاعلة من الثقافة القرآنية المرتكز الأساس لاستراتيجية البناء، وتحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والوصول بتلك الفئة إلى مرحلة امتلاك الكفاءة والفاعلية التي تؤهلها للمشاركة في البناء والتنمية، من خلال التوعية والدعم والتمكين وتطوير القدرات وتنمية المواهب، والتأهيل الحقيقي الذي يمكنهم من المشاركة الفاعلة في مختلف جوانب الحياة، ويحقق لهم الاكتفاء الذاتي، وحين كانت مدخلات التغيير كبيرة وحقيقية، وبعيدة عن تلميع الذات، جاءت المخرجات كبيرة والنجاحات مذهلة، والاستجابة كبيرة، فاقت كل التوقعات، وهو ما يحتم علينا توثيق بعض تلك النجاحات، وتناول نماذج من ذلك الإشراق التنويري – القائم على الثقافة القرآنية – في مقال قادم إن شاء الله تعالى.