الهوية الإيمانية… خصوصية يمانية(1)
ابراهيم الهمداني
تأصيل الهوية الإيمانية لليمنيين
ارتبط اليمنيون بدين الله ورسالاته وأنبيائه، ارتباطاً وثيقاً منذ القدم، فقبيلة جرهم اليمنية، كانوا أول من ساكن نبي الله إسماعيل وأمه – عليهما السلام – في مكة، وآنسوا وحشتهما، وأحسنوا الجوار إليهما، وكانوا لإسماعيل – عليه السلام – نعم الأهل والعشيرة والسند والعون، حين أصبحوا أصهاره، وأخوال أولاده، ومما لا شك فيه دانوا بدين الإسلام، واستجابوا لدعوة نبي الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكانوا جند الله وحماة دينه وأنصار نبيه، فاستوثقت علاقتهم معه، وتأصل ارتباطهم به، تاريخيا ودينيا واجتماعيا، ومن المعلوم إن إسلام قبيلة بكاملها، وإعلان انتمائها إلى دين الإسلام دفعة واحدة، خبرٌ كان له صداه الواسع، وأثره الكبير، على كافة المستويات، وربما كان سابقة فريدة في تاريخ الرسالات السماوية، ويمكن القول إن الله تعالى اختص قبيلة جرهم اليمنية بهذا الفضل، ومنحها ذلك الشرف عنوة، حين أرسلهم إلى ذلك الوادي القاحل، وقد سبقهم إليه نبيه إسماعيل وأمه عليهما السلام، ليقوموا بذلك الدور الهام والمركزي في نصرة دين الله، ومؤازرة أنبيائه.
وفي فترة لاحقه من الزمن، برز اليمنيون مجددا إلى واجهة المشهد الحضاري، ليصلوا حبل أمجادهم، ويجددوا لله تعالى ولدينه ولرسله عهدهم، ويصنعوا بمشهد إسلامهم الجماعي طواعية، ظاهرة اجتماعية وتاريخية عظيمة، وملحمة خالدة تتوارثها الأجيال، وتباهي بعظيم شرفها الأمم؛ تلك هي قصة إسلام اليمنيين مع ملكتهم الحكيمة بلقيس، ورغم عظمة ملك سليمان عليه السلام، وكثرة أتباعه وجنوده ومن آمن به، ومن اتبعه من جميع الكائنات والمخلوقات، إلا أن قصته مع ملكة سبأ وقومها، تميزت عن غيرها، وانفردت بشرف الخلود في القرآن الكريم، لما فيها من العظات والعبر والدلالات العظيمة، حيث تجلت فيها حكمة القيادة/ الملكة بلقيس، وهي تستشير قومها بشأن كتاب سليمان عليه السلام، الموصوف شكلا بالكريم، ومضمونا بالجليل، كما تجلت في قومها اليمنيين، أبهى صور الطاعة، وصدق التسليم والولاء، وحين اجتمع صدق التسليم والتولي مع البصيرة النافذة والرؤية الحكيمة، أثمر ذلك إيمانا عظيما صادقا، وشرفا خالدا، عبر الأزمان، في صورته الجماعية، التي تهتز لها القلوب، وتزهو بها النفوس، وتتعجب منها العقول، وتدهش لجلالها الألباب، وإذا كانت عظمة الله وقدرته قد تجلت في ملك سليمان عليه السلام، فإن فضل الله وحكمته قد تجلت في الملكة بلقيس وقومها، الذين سجلوا حضورهم الإيماني الجماعي، وأعلنوا إسلامهم كلهم دفعة واحدة، إيمانا يقينيا صادقا، صادر عن قناعة تامة، ليرسموا بذلك ظاهرة إيمانية متفردة، تفرد اليمنيون باجتراحها والقيام بها، من بين بقية شعوب العالم، ليعبروا عن عظيم ما اختصهم الله به من الفضل، وما منحهم من الحكمة، وما تحقق لهم من الإيمان، الذي يؤهلهم للقيام بما أٌوكلَ إليهم من أمر دينه، حتى بلغوا من أمره ما أراد. لم يتوقف عطاء اليمنيين، ولم ينقطع عنهم حبل التشريف الألهي، والاختصاص والاصطفاء الرباني، لهم دون غيرهم، بنصرة دينه، وتصديق ومؤازرة رسله، وهاهم الأوس والخزرج – القبيلتان اليمنيتان – يكملون مسيرة أسلافهم، ويتكفلون بالإيواء والنصرة لخاتم أنبياء الله ورسله، فكانوا القاعدة الصلبة التي قام عليها بنيان الإسلام، وحاضنته الأولى التي تعهدته بالرعاية والحماية، إلى أن استوى أمره وقويت شوكته.
حين أصبحت مكة خطرا وجوديا على الرسول – صلى الله عليه واله وسلم – وعلى الدين الإسلامي، في فترة بداية الدعوة، كانت المدينة المنورة هي الحصن الآمن، والنواة الأولى لتشكيل بنية المجتمع الإسلامي، وكان لها شرف هذه الريادة والأسبقية، وأولية حمل المشروع الإسلامي، الذي منح حامليه العزة والكرامة والارتقاء، بينما لم يرَ مجتمع مكة كل تلك الامتيازات، وذلك الشرف، لأن مقاييسهم كانت مادية، وأحقية الاتباع عندهم لمن يملك أموالا كثيرة، وله أولاد وعسيرة وعصبة قوية تمنعه، وبسبب افتقارهم لأدنى القيم الإنسانية والأخلاقية، وسقوطها من اعتباراتهم وتقديراتهم للأمور، فقد حُرموا الفوز بذلك الشرف، ونيل ذلك الخير، لعدم أهليتهم لحمله، وعدم صلاح نفوسهم لاستيعاب ذلك الدين، والنهوض به، وعلى النقيض تماما كان الأنصار من الأوس والخزرج، على قدر كبير من الالتزام بالقيم والمبادئ والأخلاق والتواضع، حيث زكَّى الله نفوسهم وطهر قلوبهم، وأصلح باطنهم وظاهرهم، وأهَّلهم ليكونوا حملة الدين وأنصاره، في مرحلته الأولى، مرحلة البناء القيمي والأخلاقي، ومرحلة البناء العسكري، وحين اتسعت دائرة الإسلام، وأصبح كيانا سياسيا وعسكريا كبيرا، جمع الله شمل الأنصار بأهلهم في اليمن، الذين دخلوا في دين الله أفواجا، واجتمعوا بمن سبقهم من إخوانهم، ليحملوا معا الدين الإسلامي، قضية مركزية، وهدفا أساسا في حياتهم.
تأتي جمعة رجب لتشهد ميلاد الفجر الجديد، والتتويج الكبير لعلاقة اليمنيين بدينهم وربهم ورسولهم ووليهم، والتجسيد الحقيقي لصدق الانتماء والتولي، وحقيقة الإيمان والحكمة؛ في الدخول في دين الله أفواجا، تصديقا وتسليما، فكانت لهم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قصة، وكان بينهم وبينه مودة صادقة، وانتماء حقيقي.