أمريكا.. والهروبُ من اليمن.. لِنَعُدْ إلى الذاكرة
الهدهد /مقالات
عبدالرحمن الأهنومي
لعلَّ من المهم أن نستذكر في الذكرى السنوية للصرخة في وجه المستكبرين ، حال اليمن سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً فيما سبق مشروع الصرخة والشعار الذي تحرك به الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- ، إذ لم تكن يَمَناً لنا بل لأمريكا وأجهزتها وأدواتها ، وللشعب جوع وفقر وسجون…وللشعب إعلام لغسل الأدمغة وتزييف الوعي، يقوم بأنسنة أمريكا وتجميلها ، وعلى مدى عقود ظل يمجدها ويكرسها كراعية للحرية والديمقراطية ولحقوق الإنسان ، جاعلاً منها قدس الأقداس وقبلة الحق القويم.
وقد عبَّر السيد القائد في خطابه “الخميس” بمناسبة الذكرى السنوية للصرخة عن القضايا الجامعة للأمة بما فيها من تداخلات وتعقيدات ، بلغة جامعة أيضاً تترجم شمولية المشروع القرآني وعموميته ، واضعاً الحلول العملانية لما تعيشه الأمة من واقع بائس على كل المستويات ، جراء الحروب الأمريكية الشعواء والتي ما كان لها أن تحدث لولا وجود عملاء وأدوات من داخل هذه الأمة تجندوا لأمريكا لاهثين وراء المصالح والغرائز ، وما كان لذلك أن يحدث ويتحكم بمصائر الشعوب إلا لأنها تُركت بدون مشروع عملي فاعل ، ما جعل الغالبية مستكيناً ومستسلماً ولا يعي واجبه ، وجزءاً آخر عملاء لأمريكا ، وبقيت القلة تواجه.
وانطلق السيد -حفظه الله- من هذه المناسبة متناولاً القضايا المصيرية للأمة الإسلامية، والحالة الراهنة التي تتعرض فيها للاستباحة الأمريكية في كل ساحاتها ، ومسارات الخيانة والاستكانة التي أضرت بالشعوب وولّدت المعاناة الشاقة في حياتها ، وذلك لما للصرخة من دلالات جامعة، إذ هي تعبير عن مشروع نهضوي في مواجهة الهجمة الأمريكية والتصدي لأدواتها العابثة ، ولكون الصرخة في وجه المستكبرين تضع مشروعاً عملياً يحرك الشعوب في التصدي لأمريكا وإسرائيل ، ويحصَّن ساحاتها من الاختراق، لما تشكله من وعي ، ولما تكرس من واقع عملي ينبثق منها، فهي ترسم استراتيجية شاملة لمواجهة الهيمنة الأمريكية والغطرسة والشر.
وقد أكد السيد على أن معاناة الأمة سببها الرئيسي هم أولئك الذين انخرطوا في المشبوهات الأمريكية وباتوا مجندين في فلكها ضد شعوبهم وأوطانهم وقد يكونون أنظمة أو أحزاباً أو جماعاتٍ أو نخباً ، علاوة على أن تفريغ الأمة وشعوبها من الوعي المطلوب جعل الجميع في خدمة أمريكا دون شعور، ولأن مشروع الموت لأمريكا فيه موقف عملاني مجرب فقد آن للأمة أن تصدح بهذا الشعار، وليكن في إدراك الجميع أن أمريكا لن تترك بلداً ولن تدعه يستقر فقد لجأت إلى حروب الجيل الخامس عبر الأدوات، وهذه النماذج التي نشاهدها خير دليل، فلم يكن سلاح المقاومة في لبنان سببا في معاناة الشعب اللبناني وانهيار الاقتصاد، إذ أن سلاح المقاومة حرر لبنان من الاحتلال الصهيوني لكن من رهنوا قرارهم من العملاء والمنبطحين والأدوات الأمريكية قرروا -إرضاء لأمريكا- معاقبة اللبنانيين جماعياً، الحال في سوريا، إذ أن جماعات الإرهاب التي صنعتها أمريكا هي أدوات الدمار والخراب لسوريا التي كانت تنتج ما تحتاج إليه.
ولعلنا اليوم نستذكر ما كان سائداً قبل انتصار ثورة 21 سبتمبر ، والدور الذي كان يلعبه السفير الأمريكي آنذاك ، إذ كان يضع نفسه في مقام الحاكم الذي لا حكم فوق حكمه فيقرر ما يشاء ومتى شاء ولما يشاء وتقتضيه أجندات أمريكا العدوانية ، كما أن المؤامرات التي تعرضت لها بلادنا لم تقتصر على الجوانب السياسية والإعلامية والإدارية فحسب ، بل امتدت لتطال أسلحة الدفاع الجوي التي دُمِّرت وبتنسيق علني مع النظام الحاكم حينها، وما كان لذلك أن يتم لولا خيانة النظام الحاكم ، وتدجين الوعي الجمعي للشعب اليمني وترويضه على الاستسلام لعدو أمريكي منحط ما ترك شعباً إلا وفتك به ولا أمةً إلا واستباحها طولاً وعرضاً ، وكل ذلك كان منتوجاً لحالة الفراغ والتيه الناشئين عن غياب المشروع الحقيقي لمواجهة الأعداء ، والبعد عما أنزل الله من تعاليم وقواعد جعل من التمسك بها والالتزام سبيلاً للنصر ، ومن التخلي عنها مسلكاً إلى الضعة والتردي والهوان.
مما هو معروف أن للتحرك الأمريكي في اليمن عناوين وشعارات وذرائع هي من صنائع أمريكا نفسها ، وظفتها كأدوات للتدمير وللفوضى أولاً ، ثم جعلت منها عناوين ذرائعية للاستباحة ثانياً ، فبعد أن جعلت من القاعدة أدوات إجرامية ، جعلت من العمليات ضد القاعدة التكفيري المصنوع والمدعوم فكرياً ولوجستياً ومادياً من قبل أمريكا وأدواتها ، مبرراً ذرائعياً للتواجد العسكري في اليمن وبآلاف الجنود ، وقد استخدمتهم لتنفيذ ما تريد من عمليات تصفية واغتيالات وقتل للشخصيات الوطنية ، والشيء نفسه حين صنعت الفوضى الأمنية في اليمن ، هدفت من ذلك إلى منح نفسها حق تنفيذ عمليات أمنية ، وسجن ومداهمة للمنازل، إلى آخر ذلك مما كان يحصل وقتذاك.
وما كان لذلك أن يحدث لولا أن أمريكا هيأت الأرضية والبيئة سياسياً وعسكرياً وأمنياً وإعلامياً وحتى اقتصادياً ، إذ لا تستطيع أي دولة أجنبية أن تَنْفَذَ إلى دولة أخرى فتخلق لنفسها فيها قاعدة ونفوذاً وأعواناً إلا إذا كانت الأخيرة في وضع سياسي مضطرب وتسودها المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المؤدية إلى حالة من الفراغ الممكن استغلاله من قبل القوى الأجنبية الطامعة تحت شعار “ملء الفراغ”، والحقيقة أن أمريكا خلقت كل تلك الظروف في بلادنا، فعملت على خلق الصراعات السياسية ، والقبلية ، والثأرات ، وإشاعة الفقر وضرب الأمن والاستقرار ، ثم جردت اليمن عن قوتها العسكرية ، وبالغت في ترويض النخبة الحاكمة ، وبعدما تمكنت من شراء النخب الحزبية والسياسية والإعلامية والثقافية ، حتى صار الجميع إما مخبرين أو موظفين أو مرتزقة لدى السفارة الأمريكية.
كما أن الفقر والبطالة والفساد لم تكن الأسباب الوحيدة في جعل اليمن بيئة نماذجية للتدخلات الأمريكية ، بل مثل غياب المشروع الحقيقي المنطلق من الهوية الإيمانية ومن الروح الوطنية الوثابة العامل الأهم في ذلك ، وقد جاءت الصرخة التي أطلقها الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- لتملأ ذلك الفراغ بالوعي المتوثب للأعداء ، ولتعبر عن مشروع قرآني كبير حملته الجماهير وعياً وسلاحاً ، فتحرك به الشعب وتحرر أيضاً.
لنعد إلى الذاكرة قليلاً حينما كانت السفارة الأمريكية “سياسياً” هي الآمرة الناهية ، وهي قصر الحكم، والقرارات العليا تُتّخذ من داخلها ، وكان كل المسؤولين إما جواسيس أو موظفين أو على علاقات صداقة معها، وأمنياً حينما كان مكتباً للاستخبارات الأمريكية في رئاسة الوزراء ، وفي وزارة الإدارة المحلية ، وفي الأمن القومي أيضاً ، يدير أمور البلاد ويقرر الحالة الأمنية كما ترغب أمريكاً ، واقتصادياً وعسكرياً الأمور لا تختلف، فكانت كانت محكومة أمريكياً وإن بأدوات مختلفة عما سبق ، ثم لنعد إلى الذاكرة لزمن الهروب الأمريكي من صنعاء ، فحينما اندلعت ثورة الشعب في الحادي والعشرين من سبتمبر ، ومثلت رافعة جماهيرية للصرخة في وجه المستكبرين ، تحول الشعار إلى مشروع عملي تحرك الشعب في إطاره من أقصاه إلى أقصاه ، وقتذاك بدأت أمريكا تستعد للمغادرة ، فقدت أدواتها، فلم تعد السفارة آمرة ناهية، وقتذاك قال السفير لأحد معارفه لم تبق لنا مهمة واحدة في صنعاء ، لقد فرضت الصرخة في وجه المستكبرين منطقاً وموقفاً وواقعاً أخرج أمريكا من اليمن وبلا كرامة ، فما عادت اليمن اليوم إلا يمناً لليمنيين ، فقد تساقطت أمريكا وتهاوت ، ولحقتها الأدوات من مرتزقة وعبيد وجواسيس وخونة.. على أنّ تناوُل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفات عديدة.