إحياء الروح الجهادية: مَن يحــدُثُ على أيديهم التغييرُ الحقيقي نحو الأفضل هم أولئك الذين لا تمر الوضعيات السيئة إلا ويحملون رؤية عملية تجاهها
الاتكال على الله لا يعني أن نُوكِل الأمورَ إليه فندعه هو يعملُ بدلاً عنا
الروح الجهادية لا يمكن أن تكون حيةً في قلوب المجتمع المفكك، المتنافر، المتنازع
لعلماء السوء دورٌ في تدجين الأمة، لطاعة ولاة الأمر الفاسدين، الحريصين على مصالحهم الشخصية وجعلها فوق كُلّ اعتبار
مما هو معلومٌ بالضرورة أن العصر الذي عاش فيه السيد الحسين بن بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه كانت الروح الجهادية للأمة فيه تكاد تكونُ منعدمةً تماماً، حيث أن سياساتِ اليهود والنصارى كانت قائمةً على إماتة هذه الروح بشتى الوسائل، على مدى قرون، فلم يتركوا جانباً يعتقدون أن فيه إضراراً بمصلحة الأمة، وفسادها، وتدميرها، إلا وسلكوه، فظهرت وانتشرت ثقافات مغلوطة ساهمت بشكل كبير في إخماد هذه الروح الجهادية، وقد كان لعلماء البلاط دور كبير فيها، بإشاعة طاعة الأمير، وإن جلد ظهرك، أَوْ سلب مالك، أَوْ هدم بيتك!! هذا من جهة، ومن جهة أُخْرَى لتخليهم عن حمل مسؤوليتهم الموكلة إليهم من النهوض بالأمة، وإرشادها إلَـى ما فيه مصلحتها، وعزتها وكرامتها.
وهذا الدور لعلماء السوء أدَّى إلَـى تدجين عظيم للأمة، لطاعة ولاة الأمر الفاسدين، الحريصين على مصالحهم الشخصية، وجعلها فوق كُلّ اعتبار، حتى قام رؤساء المسلمين وملوكهم اليوم بموالاة اليهود والنصارى بشكل كبير جداً جداً، والخضوع المطلق لهم، تحت مسمى (سياسة) أَوْ (ذكاء دبلوماسي) أَوْ غير ذلك من التسميات والمبررات التي قد يطلقونها على هذا الخضوع لليهود، ودون أن يجرؤ أحدٌ على نصحهم، ناهيكَ عن مخالفتهم، وزجرهم، فالسجونُ بانتظار من يفعل ذلك، والقتل والتدمير والتخريب من جهة، وفتاوى علماء السوء بالخنوع والسكوت ومعاقبة من يتكلم من جهة أُخْرَى.
ولم تعد الكلمة الحق في وجه السلطان الجائر أعلى مراتب الجهاد، كما أخبرنا بذلك رسولنا الكريم، ورمى علماء السوء بهذا الحديث وراء ظهورهم، فلم يتطرقوا له، لا من قريب ولا من بعيد.
مما حدا بالسيد حسين، واستشعاراً منه للمسؤولية الجهادية أن ينطلق في محاضرات، تلو محاضرات، حتى بلغت أَكْثَـر من تسعين محاضرة، كلها يجمعها هدف واحد، هو هدفها الأسمى، وهو النهوض بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إحياء الروح الجهادية فيها، بحيث تكون من جديد أمة قوية، قادرة، ومؤثرة.
الصرخة ودورها في إحياء الروح الجهادية
استنهض السيد حسين رضوان الله عليه الأمة وأحياء روح الجهاد فيها بداية بالصرخة في وجه المستكبرين؛ لأنه لا يؤيدها إلا من امتلأ قلبه فهماً ووعياً لما يدور حوله، امتلأ قلبه شجاعةً وجُرأةً على مواجهة الظالمين أيا كانوا، ومهما كانت قوتهم فلا يهمهم، لأنه أدركوا أن جبار السماوات والأَرْض أقوى، فوجه الأمة قائلا: (ونحن سنصرخ سواء – وإن كان البعض منا داخل أَحْــزَاب متعددة – سنصرخ أينما كنا، نحن لا نزال يمنيين، ولا نزال فوق ذلك مسلمين، نحن لا نزال شيعة، نحن لا نزال نحمل روحية أهل البيت التي ما سكتت عن الظالمين، التي لم تسكت يوم انطلق أولئك من علماء السوء من المغفلين الذين لم يفهموا الإسْـــلَام فانطلقوا ليدجنوا الأمة للظالمين، فأَصْبَــح الظالمون يدجّنوننا نحن المسلمين لليهود) وتساءل السيد رضوان الله عليه مستنكرا: (أليس هذا الزمن هو زمن الحقائق؟. أليس هو الزمن الذي تجلى فيه كُلّ شيء؟. ثم أمام الحقائق نسكت؟!) ومن يمتلكون الحقائق يسكتون؟!.) ثم أجاب رضوان الله عليه قائلاً: (لا يجوز أن نسكت.). [الصرخة في وجه المستكبرين ص: 10]
أدرك السيد حسين رضوان الله عليه بذكاء شديد ما تحتاجه الأمة لإحياء الروح الجهادية فيها، فالأمة الإسْـــلَامية في انحطاط متواصل، وتحت أقدام اليهود، وأغلبية الأمة الساحقة مدركة لهذه الحقيقة المرة، ولكنهم صامتون، لا يفعلون شيئاً لإنهاء حالة الذلة المضروبة على الأمة؛ لأنهم لا يعرفون ما معنى التوكل على الله، والثقة المطلقة بالله كما ينبغي أن تكون، وهذه هي حلقة الوصل المفقودة، ألا وهي: ربط الأمة بالله، وَالعودة بها إلَـى كتاب الله وتدبر آيات التوكل على الله في القرآن، والآيات التي تعزز ثقة المؤمن بخالقه، فقال: (فلنعد إلَـى جملة آيات من القرآن الكريم تتحدث عن صفات أولياء الله، الذين هم المؤمنون، والمؤمنون الذين هم على هذا النحو، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}) وتساءل السيد رضوان الله عليه: (أليست هذه واحدة؟. اتكالاً على الله من منطلق الثقة بالله.) موضحاً لنا بأن: (الاتكال على الله لا يعني أن نُوكِل الأمور إليه فندعه هو يعمل بدلاً عنا، ننطلق نحن في ميدان الحياة، في واقع الحياة في أداء المسئوليات، في أداء المهام، ونحن نتكل عليه حيث نهتدي بهديه، حيث نلتجئ إليه، حيث ندعوه.) [المائدة الدرس الرابع]
وحرص السيد رضوان الله عليه على توضيح معنى: أن يكون ربك الله، من بيده أمرك، من يعلم كُلّ صغيرة وكبيرة عنك، قائلا: ({آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} من منطلق إيمانهم بأن الله هو ربهم، من يهمه أمرهم، من يعمل على تدبير شؤونهم) [المائدة الدرس الرابع]
ونبّه الأمةَ إلَـى شيء مهم، يستأصل الخوفَ من قلوب المسلمين، ويُحيي روح الجهاد فيهم، وهو أنها عندما تثقُ بالله، فهي تثق بمن له هيمنة على القلوب، يستطيع أن يهيمنَ على قلب عدوك فيملئه رهبة وفزعاً وخوفاً، ومهيمن على قلبك فيملئه إيماناً وثباتاً ويقيناً، ولا أحد غيره ممكن أن يهيمن على القلوب جل وعلا.. فبالتالي هو أحق بأن نتولاه، نخافه، نعبده، نجاهد فنستشهدُ في سبيله فتساءل رضوان الله عليه: (مَن هو الذي يمكن أن تتولاه، وله هيمنة على القلوب؟ من هو الذي يمكن؟ لا زعيم، لا رئيس، لا ملك، لا أَي أحد في هذا العالم له هيمنة على القلوب.. ألم يقل الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله): ((نُصرت بالرعب من مسيرة شهر))؟ من أين جاء هذا الرعب؟ من قبل الله، هو الذي هو مطلع على القلوب، وبيده القلوب يستطيع أن يملأها رعباً، ويملأ تلك القلوب قوة وإيماناً وثقة، وعزماً وإرادة صلبة؛ لأنه قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.)[معرفة الله ــ الثقة بالله ــ الدرس الأول].
مذكراً في محاضراته بصفات أولياء الله، الذين يحملون الروح الجهادية، بأنهم الواثقون بالله، الذين تصرفاتهم في الحياة تعكس مدى وعيهم وإيمانهم ({وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} لاحظ كيف سلوكياتهم تكشف واقع نفسياتهم، التي ملؤها الإيمان الواعي، الإيمان الراسخ، الإيمان الذي لا ارتيابَ معه، هم يجتنبون كبائرَ الإثم حياءً من الله) مبيناً أن اجتنابَ الكبائر شرط أَسَاسي لتحقيق أَي نصر: (ولما لكبائر الإثم من أثر في جعلهم غير جديرين بتحقيق وعود الله على أيديهم ولهم.) [المائدة الدرس الرابع]
في ذات السياق أوضح السيد رضوان الله عليه بأن الروح الجهادية لا يمكن أن تكون حيةً في قلوب المجتمع المفكك، المتنافر، المتنازع، وأن ترابُطَ المجتمع مُهِــمٌّ جداً جداً، ووجود روح الإخاء والتفاهم والتعاون والتسامح فيما بينهم يدعم بقوة روح المقاومة والجهاد والتغلب على الأعداء والانتصار فقال: ({وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} لا يتجاوزون الحق، لديهم اهتمامات كبرى، لديهم حرص على رضى الله سبحانه وتعالى، فسيصفح وسيغفر لأخيه إذا ما بدرت منه إساءة أَوْ زلة، هو لا يريد أن يغرق المجتمع في مشاكل ثانوية تصرفه عن القضايا المهمة التي يجب أن يعطيها كُلّ اهتمامه، فهم عادةً إذا ما غضبوا لا يدفعهم الغضب إلَـى التجاوز، ولا إلَـى الباطل، بل يغفرون أيضاً).
صفات من يحملون الروح الجهادية
مذكراً بصفة أُخْرَى مهمة من أجل إحياء الروح الجهادية في الأمة، يتميز بها من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وهي الاستجابة لله قائلا: ({وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} لأنهم مؤمنون بربهم فاستجابوا له في كُلّ ما أرشدهم إليه، وكل ما أراد منهم، وطلبه منهم.) مضيفا بأن إقامة الصلاة شيء مهم جداً للحصول على رضى الله، وبالتالي الحصول على تأييده كما قال تعالى واصفا أولياؤه بأنهم: ({وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}. [المائدة الدرس الرابع]
وحذّر السيد من الاستبداد بالرأي والدكتاتورية في حياة المؤمنين، وأنها صفة سيئة تقتل روح الجهاد في الأمة، وكما قالوا: ما خاب من استشار فقال: ({وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أمورهم وهم في ميادين المواجهة، في ميادين العمل على إعلاء كلمة الله، في كيف يحافظون على صلاح المجتمع، في كيف يحققون التعاون على البر والتقوى، في كيف يؤهلون أنفسهم ليكونوا أمة تدعو إلَـى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، يتشاورون في أمورهم كيف نصنع؟ ما الذي ينبغي أن نعمل؟ يشعرون بمسئوليات كبيرة وعظيمة) [المائدة الدرس الرابع]
وبما أنه لا تشاور ولا تفاهم بين نفوس مريضة متنافرة متباغضة فأرشدهم على العمل: (وهم في نفس الوقت نفوس متآلفة قريبة من بعضها بعض، كُلٌّ منها ينصح، كُلّ منها لديه رؤية من واقع اهتمامه بواقع الحياة، وبوضعية الأمة)، مُؤكّداً أن أولياءَ الله، والذين سيحدث على أيديهم التغيير الحقيقي نحو الأفضل: (ليسوا من أولئك الذين تمر الأحداث، وتمر الوضعيات السيئة وهم لا يلتفتون إليها، ولا يحملون أَي رؤية عملية نحوها، ولا يفكرون في ماذا يصنعون من أجل المخرج منها، فأنت لا تجد لديهم أَية فكرة). [المائدة الدرس الرابع]
وشجع السيد رضوان الله عليه المجتمع بأن تكون عنده الروح الجهادية، وأن ينطلق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الله لن يتركهم، بل سيضيء لهم طريقهم، وينور قلوبهم، من حيث لا يدرون ولا يحتسبون، فتتتابع الأفكار الخلاقة والبناءة في التوارد على خواطرهم لبناء الأمة والنهوض بها، قائلاً: أما هؤلاء فاهتماماتهم تجعلهم جديرين بأن يكون لديهم أفكارٌ ذات قيمة في مجال بناء الأمة، في مجال المواجهة لأعداء الأمة، في مجال الحفاظ على صلاح المجتمع، لديهم رؤى، ومتى يمكن أن يكون لديك رؤى؟. عندما يكون لديك اهتمامات كبرى بواقع الأمة). [المائدة الدرس الرابع]
وحرص السيد رضوان الله عليه بشدة في محاضراته أن يربي الأمة ويشجعها على البذل والعطاء، ويبعدها عن الشح والبخل، لأن الإنفاق في سبيل الله من أهم صفات أولياء الله، ومن يحملون الروح الجهادية، موضحاً لنا بأن المال رزق، والخبرة رزق، والعلم رزق: ({وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يبذلون أَمْــوَالهم، ومما رزقناهم ينفقون: من علمهم، من مالهم، من خبراتهم، بأقلامهم، بأيديهم، بكل ما رزقهم الله من إمكانيات ينفقون، ينفقون في مجال ماذا؟ في المجالات التي يجب أن تهمهم كمسلمين، كمسئولين أمام الله، كمؤمنين مصدقين بما وعد الله المؤمنين به في الدنيا وفي الآخرة، فهم لا يبخلون).
وتساءل السيد رضوان الله عليه مستغرباً ممن يحبون المال حباً جماً، ويخافون من نفاده إذا ما أنفقوا في سبيل الله عن مدى إيمانهم بمثل قول الله تعالى: ({وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}، أليست هذه وعوداً؟ لكنها تتطلب إيماناً، وتتطلب أن تكون أنت ممن يحمل اهتماماً من واقع إيمانك حتى تعرف مدى أثر ما تنفق، وتعرف أنه يجب أن تبذل مالك، وتبذل من كُلّ ما رزقك الله من خبراتك، وإمكانياتك. فهم هكذا شأنهم كمؤمنين واثقين بوعد الله، حريصين على رضا الله، عارفين أثَر الإنفاق في تحقيق ما يَصْبُون إليه وما يريدون تحقيقه، فهم ينفقون) [المائدة الدرس الرابع]