اردوغان أزمة تركيا بقلم/عبد الباري عطوان
لا يعرف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من اين تأتيه الضربات الموجعة هذه الأيام، ففي الوقت الذي كان يتواجد في كينيا في إطار محاولاته لفتح أسواق جديدة لتجارة بلاده في القارة الافريقية تعويضا لخسائرها بسبب المقاطعة الروسية، يتبنى البرلمان الألماني وبالأجماع قرارا بالاعتراف بـ”الإبادة التركية” لأكثر من مليون أرمني قبل مئة عام.
الرئيس اردوغان الذي استفاق لتوه من أزمة رحيل ذراعه الأيمن ومهندس سياسته الخارجية السيد احمد داوود اوغلو، رئيس الوزراء صاحب نظرية “صفر مشاكل” مع الجيران، التي أوصلت تركيا إلى ما وصلت إليه من مكانة اقتصادية، وأخرى سياسية، هدد الخميس من نيروبي بأن القرار الالماني سيؤثر بشكل كبير على العلاقات بين المانيا وتركيا، وتوعد بأنه سيتخذ “الخطوات اللازمة” لدى عودته إلى أنقرة، اما وزير العدل التركي بكير بوزواغ فقال موجها حديثه للألمان “تحرقون اليهود ثم تتهمون الشعب التركي بالإبادة” .
هذه الاتهامات الغاضبة التي تزامنت مع قرار الحكومة التركية سحب سفيرها من برلين للتشاور كانت من أجل امتصاص حالة من الغضب في أوساط الحزب الحاكم وأنصاره، سرعان ما جرى استبدالها بلهجة تتسم بالمرونة، حيث أكد السيد بن علي يلدريم رئيس الوزراء أن المانيا “لا تزال حليفا أساسيا وأن العلاقات بين البلدين ستستمر” .
مهمة رئيس الوزراء التركي الجديد يلدريم باتت محصورة في إطفاء الحرائق التي اشعل نيرانها الرئيس اردوغان طوال السنوات الخمس الماضية، وإعادة ترميم الجسور مع دول الجوار التي انقطعت، وإجراء مراجعات سياسية شاملة قد تتضمن “انقلابا” في مواقف تركيا في ملفات على درجة كبيرة من الخطورة مثل الملفين الروسي والسوري.
قد يتم تحويل احمد داوود اوغلو صاحب نظرية “صفر مشاكل” مع الجيران التي اوصلت تركيا إلى ما وصلت إليه من ازدهار اقتصادي ومكانة قيادية سياسية، الذي استقال من كل مناصبه في الحكم ورئاسة الوزراء بسبب خلافاته مع الرئيس اردوغان، قد يتحول إلى كبش فداء، وتحميله مسؤولية حالة الانهيار الحالية التي تعيشها تركيا.
السيد يلدريم الحليف الجديد المطيع للرئيس اردوغان كشف في خطابه، الذي ادلى به في البرلمان قبل أسبوع لشرح سياسة حكومته، عن بعض مؤشرات هذه التراجعات الجذرية عندما قال “إنه يعي حقائق الوضع المضطرب الذي يحيط بتركيا، وان حكومته ستعمل على زيادة عدد الأصدقاء وتقليص الأعداء”، في عودة كلية إلى سياسة خلفه اوغلو، ولكن دون أن يسميه، لكن النقطة الأهم في الخطاب التي توقف عندها المراقبون داخل تركيا وخارجها، قوله “إن إخواننا يقتلون منذ خمس سنوات في حرب عبثية في سورية” مشيرا إلى ضرورة “وقف هذه الحرب”، دون أن يتطرق مطلقا إلى شرط إسقاط النظام السوري.
وصف الحرب في سورية بـ “العبثية” انعطافة مهمة في السياسة التركية، وتخلٍ واضح عن إرث خمس سنوات من دعم المعارضة السورية المسلحة للتعجيل بسقوط النظام، والمطالبة بمناطق عازلة، أو حظر جوي داخل الأراضي السورية. السيد نعمان كورتولموش نائب رئيس الوزراء، كان أكثر وضوحا من رئيسه، عندما قال في تصريحات صحافية “إن إصلاح العلاقات مع روسيا والعراق وسورية ومصر سيعود على انقرة بعوائد تجارية قيمتها 36 مليار دولار”، وأضاف “أنه لا يرى مانعا في عودة العلاقات الروسية إلى سابق عهدها”
وما يؤكد أقوال السيد كورتولموش هذه حول الرغبة في إعادة العلاقات مع روسيا اللهجة التصالحية التي عبر عنها الرئيس اردوغان قبل مغادرته إلى نيروبي، وتراجع فيها عن أقواله التصعيدية حول أحداث إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، “هذا الحادث خطأ في التقدير من الطيار التركي ويجب أن لا يفسد العلاقات بين البلدين الشخصية والحكومية”، وفسر مراقبون هذا التراجع بأنه قد يكون مقدمة لتقديم الاعتذار الذي تطالب به موسكو.
الرئيس اردوغان الذي يريد تغيير النظام في تركيا من برلماني إلى رئاسي يحتاج إلى اجراء تغييرات رئيسية في سياساته الداخلية والخارجية لإنجاز هذا الهدف، ووضع مصالح تركيا وشعبها فوق كل اعتبار، وأول خطوة في مسيرة المراجعات الاعتراف بالأخطاء والعمل على تصحيحها، فتركيا باتت بلا اصدقاء، في محيط شرق أوسطي ملتهب بالحروب، والأخطر من ذلك أن هؤلاء أو معظمهم تحولوا إلى أعداء بسبب السياسات والتحالفات الخاطئة طوال السنوات الخمس الماضية.
تركيا خسرت أمريكا الحليف التاريخي، مثلما خسرت روسيا القوة العظمى البديلة، بقرار غير مدروس بإسقاط إحدى طائراتها، ولم تكسب الاتحاد الاوروبي الذي يشكل العمود الفقري لحلف “الناتو”، العضو المؤسس فيه، وتخوض حربا في سورية، وتعيش سلاما باردا مع الجارين العراقي والايراني. ولعل الخطر الأكبر الذي تواجهه تركيا الرئيس اردوغان هذه الايام هو الدعم الامريكي الروسي المشترك لعدوها الاشرس المتمثل في اكراد سورية، وجيش سورية الديمقراطي الذي يمثلهم، والذي بات على وشك إعلان حكم ذاتي مستقل في المناطق الكردية السورية الشمالية الممتدة على طول الحدود الجنوبية التركية.
الرئيس اردوغان اتخذ قرارا حكيما عندما رفض كل الضغوط الأمريكية للتدخل بريا في الأزمة السورية دعما للمعارضة السورية المسلحة وللقضاء على “الدولة الإسلامية” ولا نستغرب ان يجد نفسه مضطرا للتدخل هذه المرة لمنع قيام الكيان الكردي الجديد في سورية الذي سيكون مقدمة لكيان آخر مماثل في جنوب شرق تركيا.
من يقارن بوضع الرئيس اردوغان وبلاده قبل خمس سنوات، ووضعها الآن، يدرك جيدا حجم المأزق الكبير الذي يعيشه، ولذلك لا نستغرب عمليات التمهيد الاعلامية والسياسية التي تجري حاليا من قبل أنصاره، وبينهم عرب، للتراجع عن السياسات والمواقف التي قادت تركيا الى هذا الوضع الخطير.
هل ستعطي مثل هذه المراجعات، او التراجعات، ثمارها المرجوة أم أن الوقت بات متأخرا؟
نترك الإجابة للأيام أو الشهور المقبلة، وما يمكن أن تشهده من تطورات ومفاجآت، ولكل حادث حديث.
نقلا عن رأي اليوم