شذراتٌ من سيرةٍ عطرة..، بدرُ الهدى.. من ثـورة الفـكر، إلى فـكـر الثورة
رجلٌ لا يحتاجُ لكثير وصف كي يتمكن مَن يبتغي أن يتعرّف على الرجل ومكنون دوره وعظيم شمائله.. فها هي نبذةٌ مختصرةٌ عن السيد العلامة/ بدر الدين بن أمير الدين الحوثي رحمه الله.. تفي بإشباع نهم كل متطلع لمعرفة هذه القامة الروحية والعلمية السامقة.
مولده
في السابع عشر من جُمَادَى الأولى سنة 1345هـ وُلد السَّـيِّـد بدر الدين بن أمير الدين الحوثي، في مدينة ضحيان، محافظة صعدة..
نسبه
السَّـيِّـد بدرُ الدين بن أمير الدين بن الحسين بن محمد الحوثي، الذي يمتدُّ نسبُه إِلّى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام..
نشأتُهُ
نشأ السَّـيِّـد بدر الدين في أسرة كريمة مشهورة بالعلم والورع والتقوى والزهد والعبادة بين السادة الأفاضل من العلماء جده وأبيه وأعمامه، وهكذا تربّى في حجور العلم والتقوى والزهادة والعبادة، متنقلا بين حلقات العلم والمعرفة مرتشفاً من معين التقوى والعرفان، فتتلمذ على أيدي كبار العلماء ونهل من علومهم وبالأخص والده أمير الدين، وعمه الحسن، والقاضي العلامة عبد العزيز الغالبي (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أجمعين). لمس أساتذته وأقرانه فيه النبوغ والذكاء المقترن بالسعي الدؤوب من أجل تكشف معاني القرآن وتبين آياته وكلماته..
حين كان السَّـيِّـد بدر الدين طفلاً يبدأ رحلته إِلّى القرآن كان مرض الربو يبدأ رحلته معه أيضاً.. لقد ابتلي بمرض (الربو) منذ الطفولة، وعانى منه أشد المعاناة حيث لم تكن تتوفر الأدوية آنذاك لهذا المرض.
زواجُه
ومع بداية مرحلة الشباب كان زواجه الأول في سن السابعةَ عشرةَ تقريباً من أسرة كريمة فاضلة.. كانت تلك الزوجة هي الرافدَ لمسيرته الإيمانية والعونَ والأنيسَ في السراء والضراء وشدةِ البلوى.
تنقلاتُهُ لنشر العلم
اشتدت وطأة المرض، فقرر الانتقال وهو في الثالثة والثلاثين من العمر إِلّى منطقة أخرى غير ضحيان يكونُ مناخها مساعداً على تخفيف معاناته من مرض الربو.. فكانت هجرته باتجاه بلاد خولان عامر، هناك حيث المرتفعات الخضراء المطلة على سهول تهامة، قرية (الرويس) من بلاد البحري التابعة لمديرية ساقين كانت محط رحله. وسرعان ما تحسنت حالته الصحية وأحس بالفرج.
وسَرعانَ ما أخذ يتنقل في مناطقها مرشداً ومعلماً ومصلحاً مما جعل المجتمع يحس بالحاجة لبقائه واستمراره بينهم. فقرر شيخ العشيرة ضيف الله بن إسْمَاعيْل وهو من محبي آل الرسول، ومن الباذلين لمعروفهم والمحسنين والمحبين لأهل الدين عقد قران ابنته بالسَّـيِّـد بدر الدين الحوثي.
تم الزواج واستقر به المقام عشر سنوات أمضاها السَّـيِّـدُ بدرالدين في تلك البلاد مضى خلالها يواصل رسالته في جبالها وأوديتها، وفي ذلك الوقت كانت هناك مناطقَ أخرى متعطشةً إِلّى إرشاده وتعاليمه فقرر التوجه إِلّى (مران).
وبعد أن تعرف الأهالي هناك على تعاليم دينهم قرر (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) الانتقال إِلّى منطقة أخرى هي (خميس مران) وهناك بقي فترة طويلة متنقلاً في عزلها وقراها معلماً ومرشداً ومربياً.
في هذه المنطقة وضع السَّـيِّـد بدرالدين بذرة طيبة، إذ تخرج على يديه مجاميع من الشباب المثقف الواعي الذين شكلوا الطليعة للنهضة الفكرية في ثمانينات القرن الماضي. كانوا بمثابة التحصينات الأولى التي أسّسها السَّـيِّـد الراحل (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) لمواجهة العقائد الباطلة الدخيلة في المحافظات الشمالية بالذات.
صفاتُهُ
لقد كان السَّـيِّـدُ بدر الدين أنموذجاً فريداً في جانب الورع والزهد والصبر، كان يساوي بين أولاده – وكانوا عشرين ما بين ذكر وأنثى – مساواة تامة، وكان التواضع من أبرز صفات السَّـيِّـد الراحل.. كان يذهب إِلّى السوق ويشتري الأغراض ويحملها إِلّى البيت.
كان يكرم الضيف ويقوم بخدمته بنفسه، وعندما يطرق الباب كان ينهض بسرعة لفتحه حتى ولو كان الأولاد بجانبه. ولم يكن يرى لنفسه حقاً على أحد رغم كبر سنه ومعاناته من المرض، فعندما يقدم أحد له أبسطَ خدمة أو نفع كان يرى ذلك إحساناً عظيماً ويبقى أثره الطيب في نفسه دائماً، ويهتم بالمكافأة اهتماماً كبيراً.
لقد كان السَّـيِّـد الراحل يولي قضية الأرحام اهتماماً كبيراً ويوصي بذلك كثيراً، فعلاوة على التكريم والحفاوة والتعظيم والإجلال والبشاشة وزيارتهم والدعاء لهم كان يعطي عامة أرحامه ما تيسر لديه من المال لكل فرد منهم ولو لم يكن إلا في شهر رمضان، أما أولادُه وبناتُه فكان يعطي كُلّ واحد منهم مبلغاً من المال شهرياً وفي شهر رمضان والعيدين كان يضاعف المبلغ، وعندما لا يكون بحوزته شيء من المال كان يقترض المبلغ قرضاً.
إهتمامُهُ بشؤون الأمة
لقد كان رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، على درجة كبيرة من الاهتمام بشئون الأمة وقضاياها الكبرى، وكان يتابع الأحداث خلال تلك الفترة من خلال الراديو صباحاً ومساءً، ويناقشها ويحللها باهتمام بالغ، يدعو دائماً بالنصر للمستضعفين في الأرض خصوصاً في فلسطين وما يعانونه من ظلم الصهاينة الغاصبين.
كما تميز (رحمة الله عليه) بالحماس الكبير، والغيِرة على الدين من أن تمتد إليه الأفكار المسمومة، وعندما يطلعُ على مقال أو يقرأُ كتاباً أو يسمعُ بفكرة تنال من دين الإسلام ومن عقيدة أهل البيت (سلام الله عليهم) لا يستقر له قرار ولا يهدأ له بال حتى يهبَّ لصدها وتفنيدها وإبطالها، ولكن بأسلوب مهذب وطريقة علمية ومنصفة، فتراه في جميع كتبه في الرد على المخالفين يذكر حجة الخصم ثم يرد عليه من كتب أهل مذهبه كي يُلزمه الحجة.
وفي إطار تصديه للهجمة الشرسة ضد فكر أهل البيت الطاهرين، والعملِ على تحصين الجيل من تلك الأفكار الدخيلة عليه فقد كثف جهوده في التدريس ونشرِ حلقاتِ العلم، وتوزيعِ المرشدين والمبلغين وتشجيعِ ودعمِ المدارس العلمية، واستقبالِ المهاجرين من طلبة العلم الشريف وتعليمهم والإنفاق عليهم بقدر الإمكان، ولقد كان (رحمة الله عليه) يقدم الإنفاق في ذلك وفي أي مجال من مجالات العمل في سبيل الله على قوتِ أهله وعياله في كثير من الأوقات.
مؤلفاتُهُ
1- التيسير في التفسير، وهو موسوعة عظمى في تفسير القرآن الكريم كاملاً مكونة من سبعة مجلدات.
2- وله مؤلفاتٌ عديدة ما بين مبسوط ومختصر في مواضيع متعددة، ككتاب (الزهري) أحاديثه وسيرته.
3- مثّلَ السَّـيِّـد الراحل خلال تلك الفترة سداً منيعاً أمام العقائد المضللة والوافدة، فبينما بدأ الغزو الوهابي للبلاد اليمنية كان (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) أول من تصدى له بقلمه ولسانه فألف عشرات الردود ما بين كتاب ورسالة وشريط كاسيت، ومن أبرز مؤلفاته وأقدمها في هذا المجال: (الإيجاز في الرد على فتاوى الحجاز) تلك الفتاوى التي صدرت عن مفتي السعودية حينها عبدِ العزيز بن باز والتي كفّر فيها من يزور القبور. وكذا مؤلفين عظيمين هما (تحريرُ الأفكار عن تقليد الأشرار)، و(الغارة السريعة في الرد على الطليعة) وهما من الردود على مقبل الوادعي، وقد تضمنت الرد على معظم الشبهات التي يوردها الوهابيون ويجادلون بها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في شتى الجوانب الأصولية والفروعية وعلمِ الرجال وغير ذلك.
نشاطُه السياسيّ
مثّلت بداية التسعينيات منعطفاً زمنياً في حياة المجتمع اليمني، إذ شهدت إعلان الوحدة بين شطرَي اليمن وقيام دولة الوحدة التي بارك قيامها السَّـيِّـد الراحل. يحسب له في هذا المجال.. اهتمامُه الكبير ودوره الرائدُ في دعم مشروع الوحدة اليمنية وكذا دستور الوحدة، مبيناً أَهَميَّة ذلك من الناحية الشرعية وغيرها، مفنداً مزاعمَ ودعاوَى الآخرين ممن زعموا أن ذلك كفر وضلال مبين، فكانت بياناته مع عدد من الآباء العلماء الأجلاء من أهم العوامل التي دفعت جماهير الشعب لتأييد وحدة اليمن التي كان الجميع يعلق الآمالَ على تحققها قولاً وعملاً. لقد شهد عهد الوحدة اليمنية اهتمام السَّـيِّـد الراحل بالشأن السياسي، فقد رأى في التعددية السياسية التي جاءت بها الوحدة فرصة للعمل من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن العام للبلاد عموما ولصالح اتباع أهل البيت عليهم السلام في اليمن..
حينها كان أبرزَ المؤسسين والمهتمين بإنشاء (حزب الحق) حيث سعى (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) لإقناع مجموعة من أكابر العلماء – وعلى رأسهم العلامة الكبير السَّـيِّـد الراحل (مجدُ الدين بنِ محمدٍ المؤيدي) رحمه الله – بأَهَميَّة إنشاء حزبٍ يمثل كَياناً يجتمع به شملُ الناس، وتتكاتفُ جهودهم لنصرة دين الله والمستضعفين، تأسس حزب الحق مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعمل السَّـيِّـد الراحل على دعم الحزب وتقويته.. كان يحرص على السفر إِلّى مدينة ضحيان للقاء بالعلماء وناشطي الحزب.
نشاطُه الثقافي
بدعوة من أهالي بلاد آل فاضل جنوب غربي مران، توجه السَّـيِّـد الراحل إليهم فعمتهم الفرحة والسرور، وقاموا بعمارة دار له قرب المسجد الكبير، وانطلقوا كباراً وصغاراً لطلب العلم على يديه بينما توافد المهاجرون للدراسة من مختلف البلدان، وأصبحت تلك البلاد دار هجرة. وكان (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) كلما ازداد عدد الطلبة ازداد فرحاً وابتهاجاً ويحمد الله على ذلك كثيراً.
انطلقت مطلع التسعينات نهضة المدارس العلمية والمراكزِ الصيفية كان السَّـيِّـد الراحل المرجعَ والمرشدَ والمشرفَ على جميع مناهجها وبرامجها وأنشطتها.
ولهذا فقد تعرضت لمحاولة تقويضها وإزالتها من قبل جهات عدة، وتعاظمت المؤامرة على ذلك المشروع التربوي الناجح، حينها تصدى (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) لتفنيد كُلّ المزاعم، ودحضِ كُلّ الشبهات، ودحر كُلّ المؤامرات، وتكلم بالحق حين صمت الآخرون، ولم تأخذه في الله لومة لائم رغم ما تعرض له من الضغوط والمعاناة والمشاكل التي وصلت إِلّى حدّ محاولة اغتياله مراتٍ عدة.
رغم الصعاب والمشاق كان السَّـيِّـد الراحل رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ يتنقل إِلّى معظم المناطق لزيارة طلاب العلم وتشجيعهم وخاصة في المهرجانات التي كانت تقام في نهاية الدورة التعليمية، ويشاركُ في تلك الاحتفالات.
اعتزالُه العملَ السياسي، وتفرغه للعمل الثقافيّ
خلال تلك الفترة وفي إطار جهاد السَّـيِّـد بدر الدين الحركي عمل السَّـيِّـد الراحل نائباً لرئيس حزب الحق وسعى لتحقيق أهداف الحزب المهمة، غير أن عراقيل كثيرةً وقفت في طريق تحقيقها، وأعاقت ما كان يتطلع إليه الجميع نتيجة لمؤامرات السلطة الظالمة التي أقلقها ذلك المشروع الكبير فحاكت ضده المؤامراتِ والمكايدات، وروجت لأنواع الدعايات حتى تجلى للجميع عدم إمكانية استقامة هذا المشروع ونجاحِه في ظل هذه السلطة الظالمة، وحينما يئس (رحمة الله عليه) وأدرك أن هذه الفكرةَ غيرُ مستساغة لدى السلطة، وأنها إنما تتاجر باسم الديمقراطية والتعددية الحزبية غيرَ جادة ولا ملتزمة بما تروج له وتتبجح به من تلك العناوين الزائفة.. قرر الاستقالة والتفرغ للعمل التعليمي والثقافي والتربوي والفتوى والإصلاح بين الناس.
تضييقُ السلطة عليه
تمثل الدور الحركي للسيد الراحل في نشر الوعي الحركي والتربيةِ القرآنية الجهادية، فكان حديثه مركزا جداً على أَهَميَّة وحدةِ الصف وتركِ التفرق، والدعوةِ لإعداد العدة لمواجهة مؤامرات أعداء الإسلام الذين يسعون لإذلال المسلمين واستئصال شأفتهم إما مباشرة أو عبر عملائهم من الطغاة الظالمين مما يجعل الجهاد واجباً مقدساً على كُلّ مسلم مستطيع له دون قيود أو شروط.
لقيت تلك المواقف الصلبة صدىً قوياً لدى الجماهير المسلمة وكان لها تأثيرُها الكبيرُ عليهم، وبالمقابل بدأت السلطة وأذنابُها يضيقون ذرعاً بهذا العالم المجاهد ومواقفِه المبدئية، فبدأوا يثيرون الغبارَ في طريقه، ويزرعون المشاكل، ويضعون العراقيل لإسكاته وتدجينه، فمن الترغيب إِلّى الترهيب إِلّى التهديد والوعيد، إِلّى مضايقة أبنائه وطلابه والمدارس والمراكز التابعة لنهجه ومساره القرآني الحركي الجهادي، إِلّى غير ذلك من الوسائل والأساليبِ الراميةِ لإيقاف هذا التيارِ المتدفق بالخير والعطاء والسعادة والعزة والكرامة للأمة جمعاء.
محاولةُ اغتياله
ولما لم تُجْدِ تلك الوسائلُ الماكرةُ في ثنيه عن مساره القرآني، وحينما رأى الطغاةُ أنه مصمّمٌ على مواصلة مشواره الجهادي.. بدؤا يُبيِّتون الخططَ ويحيكونَ المؤامرات لاستهدافه شخصياً ومحاولة القضاء عليه، وعبر بعض رموز الشر والإجرام من زعماء العشائر في محافظة صعدة جرت أول محاولة لاغتياله في منزله بمران في منطقة (الخرب) حيث قام أولئك المجرمون بزرع قذيفة صاروخية مؤقته مقابلَ باب غرفته، احدثت انفجارا هائلاً، إلا أن رعايةَ الله سبحانه وعنايتَه بوليه خيّبت آمالَهم، حيث أخطأت الهدفَ وانفجرت بجوار باب الغرفة.
محاولةُ اعتقاله
وهكذا روّج الأعداءُ للكثير من التهم والدعايات المضللة ضد هذا العالم الرباني في محاولة لصنع ذريعة تسوغ القضاء عليه أو اعتقاله، حيث ادعوا أنه يسعى للإمامة كما هو ديدنهم ضد كُلّ مصلح ومؤمن مخلص ناصح للأمة وللدين الحنيف. تلت تلك الدعايات حملة عسكرية كبيرة على مران واتجهت فور وصولها وتحت جنح الظلام إِلّى منزل السَّـيِّـد الراحل، لتبدأ القوات الخاصة باقتحام المنزل عاقدين العزم على إطفاء نور الله، وانطلقوا بكل صلف ودناءة يفتشون كُلّ زاوية إلا أنه – وبلطف الله وعنايته- كان قد توجه إِلّى مقره الآخر في (جمعة آل فاضل) ولما لم يجدوا هناك أحداَ عبثوا بالمنزل وانتهبوا ما كان في البيت من أثاث وكتب وغيرها. ثم فجروا القنابل في الغرف وأطلقوا القذائف من الخارج إِلّى داخل المنزل.
بعدها نزلوا إِلّى سوق مران واعتقلوا سبعين شخصاً من أهالي المنطقة كلهم من طلبة ومريدي هذا السَّـيِّـد الجليل وأودعوهم السجن المركزي بالمحافظة بعد أن اقتحموا بيوت البعض منهم وانتهبوها وضربوها بالأسلحة الثقيلة وروعوا النساء والأطفال، واستمر اعتقال هولاء لمدة تسعة أشهر بحجة أنهم – فقط – من أتباع السَّـيِّـد بدرِ الدين الحوثي العالم الواعي.!! الذي أزعجتهم حركته الجهادية ونهجه القرآني الصارخ في وجوه الظالمين الداعي لنصرة المستضعفين وجهاد الطغاة والمستكبرين.
حربُ صعدة الأولى
لم تفلح كُلّ هذه المؤامرات لثنيه عن نشر العلم والمعرفة بل أثمرت جهوده مسيرة قرآنية جهادية قادها نجله السَّـيِّـد المجاهد الحسينِ بنِ بدرِ الدين (سلام الله عليه) باعث النهضة الرسالية.. فعندما انطلقت الصرخة المدوية (… الموت لأمريكا… إلخ) والدعوة لمقاطعة البضائع الأمريكية والصهيونية في عدد من المساجد، وعبر المنشورات، وحينما بدأ البعض يشكك في مدى شرعية هذه الخطوة أو جدْوَائيتها كان هذا العالم الرباني (سلام الله عليه) أولَ من هب للدفاع عن هذه الفكرة وبيَّن بكل وضوح أهميتها وضرورتها مستدلاً على ذلك بأقوى الأدلة وأنصعها، ونشرت فتاواه الجريئة مسطرة بقلمه.
حين عجزت السلطة الظالمة عن إسكات الهاتفين بالشعار، وحين أدركت ومن ورائها قوى الاستكبار العالمي أميركا وإسرائيلُ وأذنابُهم خطورة توسع الشعار والاستمرار في ترديده، قرروا جميعا شن الحرب الظالمة الأولى على صعدة.
كان السَّـيِّـد العالم الرباني بدر الدين الحوثي حينذاك قد انتقل قبلها إِلّى منطقة (نشور همدان) وكان عمره حينها يناهز الثمانين سنة. خلال تلك الحرب ظل يرقب الأحداث عن كثب، ويقدم ما بوسعه للمجاهدين من المال ومن النصح والإرشاد والدعاء.
ذهابُه إِلّى صنعاء
بعد الحرب الأولى شغلت بال السَّـيِّـد الراحل قضية السجناء الذين كانت السلطة اعتقلتهم خلال الحرب وبعدها وقبلها على خلفية ترديدهم الصرخة بالجامع الكبير بصنعاء، وهم بالمئات.. طلبت السلطة من السَّـيِّـد الراحل حين بدأ التفاوض بشأنهم الذهابَ إِلّى صنعاء كي يتسلم السجناء، وضربَتْ موعداً محدداً لذلك، وبالفعل، وصل السَّـيِّـد بدرالدين إِلّى صنعاء ليقدم نموذجا عمليا في الأخلاق والتواضع، والصبر، وبعد وصول السَّـيِّـد بدر الدين إِلّى صنعاء ظلت السلطة تماطل لفترة طويلة ولم تنفذ ما وعدت به من إطلاق سراح المعتقلين. فغادر السَّـيِّـد الكريم العاصمة متوجهاً إِلّى صعدة، معتبراً أن السلطة قد نكثت بوعدها ولم تطلق السجناء، وأنه لا مبرر لبقائه هناك أصلاً.
قبيل مغادرته (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) صنعاء كانت (صحيفة الوسط) قد أجرت معه مقابلة حول الشعار والحربِ وقضايا العقيدةِ وغيرِ ذلك، وكانت إجاباته صريحة وموضوعية، إلاّ أن السلطة الفاسدة لم تتحمل كلمة الحق، ولم تعجبها الصراحة والصدق، واعتبرت ذلك مبرراً لعدوانها، فأججت الحرب الظالمة الثانية.
حربُ صعدة الثانية
عاد السَّـيِّـدُ بدر الدين إِلّى منطقة نشور، وعلى الفور لاحقته السلطة الظالمة إِلّى حيث يقطن هناك، فأشعلت أوار الحرب الثانية (19/ 3 (مارس)/ 2005م). هناك في نشور كان قد تجمُّع عدد قليل ممن نجا من لظى الحرب الأولى بمران، والتي كانت جراحاتُها لم تلتئم بعد، والرعبُ لا يزال يسيطر على البلاد والعباد باستثناء من امتحن الله قلوبهم للإيمان من المجاهدين الصادقين الذين ثبتوا ثبات الجبال الرواسي. وخلال تلك الحرب الظالمة كان (السَّـيِّـد البدر) هو المستهدفَ الأولَ، وكانت السلطة الظالمة تمطر المنطقةَ بآلاف القذائف والصواريخ وبشتى أنواع الأسلحة الثقيلة، وتطوق المنطقة من جميع الاتجاهات.
تخفّيه وبُعدُه عن الأنظار
منذ نهاية الحرب الثانية وحتى لحق بالرفيق الأعلى اضطر السَّـيِّـد بدر الدين للتخفي عن الأنظار، والبُعدِ عن أصدقائه ومحبيه سوى أفرادِ أسرته والقليلِ النادرِ من أصدقائه الذين كان يُسمَحُ لهم بزيارته وبسرية تامة، لقد كانت السلطة الظالمة حريصةً كُلّ الحرص على معرفة مكانِ تواجدِه لاستهدافِه وتصفيته وبأيَّة وسيلة ممكنة رغم ما كانت تروّج له من أنها قد تمكنت من القضاء عليه خلال الحرب الثانية.
خلال الحرب السادسة كانت الضرورة تقضي بالتمويه أكثر فكان السَّـيِّـد بدرالدين يضطر لمغادرة مقره الرئيسي إِلّى مكان آخر، فبعد صلاة الفجر مباشرةً من كُلّ يوم كان يضطر للذهاب فيأخذ علاجه وينطلقُ إِلّى [هذا المكان] ليعود قبيلَ المغرب، وكان هذا الانتقال يكلفه الكثير من المتاعب لوعورة الطريق، مع ضعف بدنه وعدم تحمله للبرد ومعاناته من كثير من الأمراض، وفي كثير من الأحيان كان يضطر للبقاء في الظلام حتى لا يكتشف مكانه بواسطة (شبكات التجسس التي كانت تجوب سماء المنطقة باستمرار).
حربُ صعدة الثالثة، وما بعدها
كلما انتهت الحرب وعاد المظلومون لالتقاط أنفاسهم تعاود السلطة الظالمة عدوانها على السَّـيِّـد بدر الدين، وأتباع مسيرة القرآن، ها هي السلطة العميلة تشعل الحرب الثالثة (28/ 11/ 2005م) جاهدة في إطفاء نور الله والقضاء على السَّـيِّـد البدر والطليعة المجاهدة.. وبينما كان (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) بمنأىً عن لظاها ظل يتابع الأحدث ويدعو للمجاهدين بالثبات والنصر والتأييد؛ وهو يعاني قسوة المرض مع انعدام العلاج في تلك الظروف الصعبة.
وبانتهاء الحرب الثالثة قرر السَّـيِّـد الراحل ان يكون مع المجاهدين جنبا إِلّى جنب، فحرص خلال الحروب الرابعة والخامسة والسادسة أن يكون بقرب ولده قائد المسيرة القرآنية السَّـيِّـد عبد الملك حفظه الله ورعاه، يحظى بعنايته ورعايته، كما يحظى هو ومن كان هناك من إخوته وأقاربه بلطف وعطف وتشجيع والدهم. وخلال هذه الحروب الطاحنة كان يرقب الأحداث عن كثب ويتابع الوقائع لحظة بلحظة وكأنه في وسط الميدان يتألم لآلام المجاهدين ويفرح لفرحهم.
إكماله لتفسير القرآن رغم الأخطار
رأى السَّـيِّـد بدرالدين خلال هذه الفترة الممتدة من بعد الحرب الرابعة وحتى الحرب السادسة ضرورةَ مواصلةِ المشوارِ لإكمال مشروعه العظيم في تفسير القرآن الكريم برغم الأوضاع الأمنية الخطيرة، ورغم التشرد وكل المتاعب والصعاب، فعمل على اكماله ومراجعتِه والاهتمامِ به، وكان قد تبقى منه ستة أجزاء أتمها شفوياً لضعف البصر وعجزه عن الكتابة المكثفة، وتم تسجيل ذلك وإفراغه من أشرطة الكاسيت، كما حكى ذلك في مقدمة الكتاب.
نجاته من موت محقق
كان مقرُّ سكنه الرئيسي يعجُّ بالنساء والأطفال من أحفاده وأقاربه الذين اضطُروا للنزوح إليه، وكان طيران العدو يركز على الأماكن التي يتكاثف فيها النازحون أو أيُّ تجمع بشري كالأسواق فيتعمدُ ضربَها، وهذا ما لاحظه الجميع خلال الحرب السادسة بالذات. وفي تلك الليلة المشئومة وفي منتصف الليل والجميع –كلُّهم من النساء والأطفال- يَغِطُّون في سبات عميق وإذا بالطائرات تستهدف المكانَ وتصب حممَها على رؤوسهم، وتركز القصف على [هذا المكان والذي كان مطبخاً للطعام وسكنا لمجموعة من النساء وأطفالهن] وهنا حلت المأساة، وتجلى غبار القصف عن تسعةِ شهداء أربعِ نساء وخمسةٍ من أطفالهن عرجت أرواحهم إِلّى بارئها، وبقيت أجسادهم المتفحمةُ تحت الركام، وكلُّهم من أحفاد هذا السَّـيِّـد المكلوم المشرد المظلوم.
وتنتشر رائحة الجريمة ممزوجةً بغبار القنابل الفسفورية مكوِنةً سُحُباً داكنة تغطي سماء المنطقة، ويتهادى الشيخ الذي أناف على الثمانين سنة وبخطى وئيدةٍ يعلوه الغبار المتراكم ويكاد يحبس أنفاسَه، متوكئاً على عصاه ليجتاز تلك الصخورَ المتناثرةَ حول غرفته المجاورة، ليلقيَ نظرة على المكان الذي كان يضم أربعاً من حفيداته وخمسةً من أطفالهن الذين لم يتجاوز عمر أكبرهم سنَّ الرابعة تقريباً، فيجد ذلك الملجأ أثراً بعد عين، وهنا ينكسر قلبه، ويشتد حزنه، وتعصف به مرارة الألم فيتمتم بتلك الكلمات التي طالما رددتها شفتاه عند كُلّ مصاب (إنا لله وإنا إليه راجعون).
مرت الحرب السادسة وتحقق النصر المبين لأولياء الله المجاهدين الصابرين، والسَّـيِّـد البدر لا يزال يشع بأنواره الزاهية، وطلعتِه البهية على هذا الوجود، لكن حالتُه الصحيةُ تتدهور، في الآونة الأخيرة بدأت نوباتٌ من هبوط الدم تأتي أحيانا فتسبب له إغماءةً خفيفة لا يلبث أن يفيق بعدها، وكان عادةً عندما يفيق يسأل: هل صليتُ صلاة كذا؟ أو هل حان وقت الصلاة؟ وكان من أهم ما صار يركز عليه في تلك الآونة الأخيرة هو تذكر ما إذا كان قد بقي عليه دين أو أي حق لإنسان، فكان يشغل باله بالتفكير ومراجعة حسابات الماضي وبدقة واهتمام بالغ.
وفاتُهُ
قبيل فجر الخميس 19 من ذي الحجة 1431هـ نهض (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) لأداء صلاة الفجر وتوضأ بالماء وضوءً تاماً حتى أنه لم يرض لولده بأن يعينه على غسل رجليه وصلى صلاة الفجر من قيام.
وفي تمام الساعة الثامنة والربع من صباح ذلك اليوم صعدت روحه الطاهرة إِلّى بارئها راضيةً مرضية بعد حياة زاخرةٍ بالجهاد والعطاء، والتفاني في سبيل الله ومن أجل المستضعفين.. في يوم الجمعة 20 من ذي الحِجة أصدر السَّـيِّـد عبدُ الملك بدرِ الدين الحوثي بيان النعي لوالده الراحل (رحمة الله عليه).
ولم نَرَ بدراً قبله غاب في الثرى ** ولم نَرَ طَوداً قبلَه ضَمَّه القبرُ