التاريخُ يصنعُ وَعْيَنَا (37) قبيلة مراد وانتماؤها التاريخي للهوية الإيمانية – الحلقة الثانية
الهدهد / مقالات
حمود عبدالله الأهنومي
شارك أبناء قبيلة مراد مشاركة فاعلة في الحضارة الإسلامية، وعبروا بقوة عن انتمائهم لهويتهم الإيمانية اليمانية في مراحل التاريخ، وهذه تراجم بعض رجالاتهم العظماء، وأدوارهم التاريخية المشرِّفة.
انطلقت قبيلة مراد في ما يسمى بالفتوحات الإسلامية انطلاقة جادة، كبقية القبائل اليمنية الأخرى، وإذا كان هناك من عيب يتوجّه إلى تلك الفتوحات حيث تحولت في فترة من فترات الحكم الأموي إلى نوع من السيطرة المتسلطة على الشعوب، والتي كان يهمها في المقام الأول هو البحث عن المال والنساء، فإن هذا الأمر لا ينسحب على جميع المشاركين في الفتوحات ممَّن انطلقوا بوعيٍ إسلامي، وعقيدة صافية، ومحبة لبسط سلطان الإسلام المحمدي الأصيل على البلدان التي كانت تخضع لطاغون الكفر والوثنية، وقد انطلق للجهاد أثناء الفتوحات في أيام الأمويين من كان معروفا بصدقه وإخلاصه وقوة انتمائه إلى الإسلام، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي مات في أرض الغزو في أيام يزيد بن معاوية.
لقد ترك هؤلاء الفاتحون بصماتهم على تلك الأراضي المفتوحة، وممّا خلفه أبناء قبيلة مراد المذحجية في الأندلس (حصن مراد) الذي يقع بين أشبيلية وقرطبة، وهو حصن مشهور، ولا تزال هذه المنطقة تُسَمَّى بـ(المرادي) وتدخل ضمن أراضي مملكة أسبانيا، وقد نصت كتب التاريخ على أسماء عدد من قادة الفتوحات ينتمون إلى قبيلة مراد.
غير أن مشاركة أبناء قبيلة مراد في الجانب الحضاري كانت أكثر حضورا وإشعاعا، فمن أعلامهم في عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، تلميذُه وصاحبُه الذي روى عنه، عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي، وهو الذي قيل في سنده: «أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي، وقد توفي سنة 74هـ.
ثم يأتي تلميذ الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين (ت122هـ): أزهر بن راوع المرادي رضي الله عنه، وكان فاضلا نبيلا.
وقد لمع في سماء العلم أحد علماء الزيدية الأجلاء، وعمدة محدثيهم، وأحد حفاظهم المرموقين، وفقيههم المعمَّر، والذي يسميه مؤرخو الزيدية بـ(حواري أهل البيت)، ألا وهو الحافظ محمد بن منصور المرادي المتوفى تقريبا في 290هـ، والذي يعتبره أئمة الزيدية من طبقة المخرِّجين للمذهب، إلى جانب أئمة عظام مثل الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ت411هـ)، وأخيه الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني (ت426هـ)، وقد جمع المرادي أمالي حفيد الإمام زيد بن علي، وهو الإمام أحمد بن عيسى بن زيد، وسماها (علوم آل محمد)، وله عدد كبير من المؤلفات في الحديث والفقه وغيرهما، ويُعتَبَر المرادي خامس خمسة أئمة برزوا في علم الحديث عند الزيدية، وإذا أطلق محدثو الزيدية كلمة (أئمتنا الخمسة)، فإنهم يقصدون (المؤيد بالله، وأخوه أبو طالب، والموفق بالله، وولده المرشد بالله، والحافظ محمد بن منصور المرادي)، «وكان الأئمة في زمنه يُجِلُّونه إجلالَ الأب الكريم، وكان هو ينزلهم في منزلهم الشريف والكريم».
وفي القرن الثالث الهجري لما أرسل اليمنيون وفودهم إلى الحجاز إلى الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ت298هـ) وطلبوا منهم أن يخرج إليهم، ويقيم دولة الحق والشرع فيهم، كان من أبرز مناصريه زعيم مذحج ورئيس مراد في عصره، أبو العشيرة أحمد بن محمد المذحجي المرادي، المسمى بابن الروية، وكانت مساكنه في وادي السر، في مديرية بني حشيش اليوم، وفي مدينة ثات، بالقرب من مدينة رداع، وكان نفوذه يشمل مدينة سبأ (مأرب)، وكان له دارٌ للضيافة يضيف فيها كل من مر عليه، ورغب في نواله، كما ذكر ذلك المؤرخ الرحالة المعاصر ابن رستة في كتابه الأعلاق النفيسة، وقد قاد مع الدُّعَام ثورة عارمة ضد اليُعْفِريين، ثم كان أحد المناصرين للإمام الهادي في المواجهة ضد بني طريف، إلى أن قتل في 9 ذي الحجة 393هـ/ 5 أكتوبر 906م في معركة بثات مع القرامطة.
ثم خلفه أخوه الزعيم الكبير الربيع بن محمد بن الروية، الذي اشترك مع الإمام الهادي في مواجهة بني طريف والقرامطة، وكان شريفا معظَّما، وكان محمودا عند الأئمة، الهادي وابنيه المرتضى والناصر، وقد وصفه المؤرخ ابن أبي الرجال بـ»الشيخ ناصر الدين …، ولي آل رسول الله …، أحد أشراف اليمن وعظمائها، كان مقدَّمَ مذحج وصاحب الكلمة فيهم، ونصر العدل والتوحيد ونشر ألوية آل محمد – عليهم السلام- ولم يؤثر عنه إلا الصالحات من ابتداء أمره إلى انتهائه، وكان محموداً عند الأئمَّة، … وفيه يقول الشاعر:
ابن الروية قرم مذحج لم يدع … محض الوفاء لقرم آل محمدِ
إن الربيع نصيرهم ووليهم … وسنامهم يوم الوغى في المشهدِ
إن الوفاء إذا الرجال سموا به … كان الربيع مقدَّماً في المسندِ»
ثم في القرن السادس والسابع الهجريين برز منهم الفقيه العالم المكين، والداعية البليغ، والإداري اللامع، محمد بن أسعد بن علاء بن إبراهيم المرادي المذحجي، من كبار علماء الزيدية المجتهدين، وهو الذي بعثه الإمام عبدالله بن حمزة في سنة 603هـ داعيا وواليا على منطقتي الجيل والديلم (محافظتي مازندران وجيلان شمال إيران وجنوب بحر قزوين). قال صاحب الترجمان: «واستمرت ولايته في جيلان وديلمان ونواحيها، وانتظمت فيها الأمور، وجرت فيها الأحكام، وأقيمت فيها الحدود»، ولعله عاش إلى سنة 644هـ.
وفي القرن السابع الهجري برز العالم إبراهيم بن فليح بن أسعد بن منصور الراقي المرادي الجوفي، قال ابن أبي الرجال: «كان من أكابر العلماء وكان محققاً في الفقه».
وفي القرن السابع والثامن الهجريين ظهر الفقيه الشهير يحيى بن الحسن البحيبح، وكان عالما كبيرا وفاضلا شهيرا، وكان – رحمه الله – أحد مذاكري فقهاء الزيدية المعتمَد على أقوالهم في حياته وبعد موته، وله تعليقة على كتاب اللمع في الفقه، وقد تكرر ذكره كثيرا بين الفقهاء في شرح الأزهار وحواشيه. ولما دعا الإمام علي بن صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين للإمامة قال بعض المؤرخين: إنه قد اعترف بإمامته جبلان من أهل العلم، وهما السيد يحيى بن الحسين، والفقيه يحيى بن الحسن البحيبح.
وتشرَّفَ القرن التاسع الهجري بالفقيه الفاضل، إبراهيم بن يحيى الثاتي، نسبة إلى ثات، وكان من العلماء المبرِّزين، مدَرِّساً، حافظاً للشريعة، تَخرَّج عليه فضلاء، منهم السيد صارم الدِّين إبراهيم بن محمد الوزير، صاحب الفلك الدوار في علم الحديث، أما والده العلاّمة يحيى بن محمد الثاتي المرادي المذحجي فقد كان شيخ الإمام الموسوعي المهدي أحمد بن يحيى المرتضى المتوفى سنة 840هـ.
وهكذا يتبين أنه خلال جميع مراحل التاريخ الإسلامي في اليمن تبوّأ المراديون مقاعد عظيمة في الحضارة اليمنية، وبرز منهم العلماء والفقهاء والقادة والإداريون والدعاة، بشكل لا يمكن أن يخفى على من له أدنى اطلاع على تاريخ اليمن، وإن تاريخا مشعا ورائعا وحضاريا على ذلك النحو لجدير بأن يستمر أهله في إعادة وهجه، ونوره، والمضي على دربه.