النباء اليقين

لنخاع الروح “تسلل الألم”

جورنيكا 

بقلم/ فاطمة شرف الدين

رغم هجوم الضوء على جفني، إلا إنه لا يمكنني القول بعدم الحصول على نوم هانئ و بسبب الابتسامة الدائمة لا أستطيع التذمر من إرهاق يومي ؛ لا شيء يثبت أن الشجرة أمامي تدعى شجرة التوت سوى ما أخبرني به الكبار .

 

رغم أن لا ثمر أحمر أو أرجواني يزينها لا أجد سوى أغصان متمايلة بأوراقها الخضراء محتفظة بلونها الإلهي أمام تغيرات الظروف

والأجواء، إنها ترقص كل دقيقة أمام جموع العابرين مع الأرواح الغائبة بمعزوفات شفافة وأحياناً باردة تسمى الريح.

 

وحدها الأماني تلوم صراع الليل و النهار كيف له أن يأتي في غفوة ارتياح الحلم؟ كيف للنهار أن يقف على أقدام الشمس؟ وكيف للقمر الحالك أن ينهزم هكذا دون أن يرعى انتظاري؟!!!

 

من مساحات شاسعة تمتلئ بها الروح.. مساحات شاسعة مكتظة بأسئلة النقيض و من معاناة ونقائض كاتب إلى نقائض و سحر يهم القارئ.. تناقض الأمم المتحدة في عام 2003م في مؤتمر لها أقامته قبيل شنها الحرب على العراق بتغطية اللوحة النسيجية لل “الجورنيكا” التي تم إنتاجها من قبل

“بيكاسو” بعد رفضه طلب الرئيس الأمريكي نيكسون ببيع اللوحة الأصل و نقلها للولايات المتحدة وقد كانت الجورنيكا ولا زالت رمزاً مضاداً للحرب و تجسيداً للسلام فهي تنبذ الحرب و المعاناة و القبح، جاء المؤتمر ملوحاً بالحرب، ومناقضاً للجورنيكا الموضوعة أمام قاعة مجلس الأمن إنها فضيحة بحق الإنسانية و ليس غريباً تبريرهم تغطية اللوحة بأنها تسبب تشويشاً للمصورين فبابلو بيكاسو بعمله الإنساني رد على المعتقدات السائدة بأن الفن لا سيما التشكيلي ما هو إلا متعة بصرية للرائي وأن الفنان مخلوق يعيش بعيداً عن هذا الكوكب وأنه لا يشعر أو يحس بمعاناة مجتمعه وبأن الواقع شيء و ألوان الفنان و فرشاته شيء آخر ليعبر عن رؤاه و أفكاره السياسية المتطورة.

 

 

إن المنغلقين من الناس يرون أن الفن للفن و هذه فلسفة خاطئة وغير واقعية إنهم يقتطعون هذا الفنان وحده من الحلبة ليجعلوه في غرفة معزولة تماماً عن الصوت، و الألم، و عن الدم الذي يصب كل يوم و لكن الفنان يبتلع الكلمات والأنات و يتحدث بلغته تلك، و للمشاهد دور الإصغاء للصراخ والألم والمعاناة المنبعثة من العمل الفني

وأحياناً قليلة له أن يستمع للفرح و أغانيه.

 

جورنيكا هي قرية بمنطقة الباسك في أسبانيا، و في الحرب الأهلية الأسبانية التي نشبت بسبب الإطاحة بالحكم الجمهوري من قبل الديكتاتور (فرانشيسكو فرانكو) وذلك بتواطئه مع النازيين قامت القوات الجوية الحربية التابعة لهتلر برمي أطنان من المتفجرات الحديثة الصنع آنذاك لتجريبها و إبادة سكان هذه القرية البسيطة ما خلف مئات من القتلى من الأطفال و النساء، فقامت الحكومة الأسبانية بتكليف أشهر فنانيها

(بابلو بيكاسو) عام 1937م بالتعبير عن هذه الكارثة الإنسانية ليتم عرضها في الجناح الأسباني في معرض باريس الدولي، حنين بيكاسو لموطنه طغى على العمل الفني فنراه فضل تسميتها بالجورنيكا، و كتب لها السفر حول العالم حتى استقرت بنيويورك، عند رؤية اللوحة لأول مرة بالنسبة لفرانشيسكو قال “إن بيكاسو هذا رسام متهور” وطلب من بيكاسو نقل اللوحة إلى أسبانيا لكنه رفض مشترطاً عودتها بعودة الديمقراطية لبلده.

 

وبعد وفاة الديكتاتور بسنين تحقق حلم بيكاسو و شرطه و عادت الجورنيكا محملة على طائرة أمريكية لتحظى باحتفال صاخب احتفالا بالجمهورية المستعادة و حطت على أرضها المبلولة بالدموع و صرخات المنكوبين عام 1981م.

 

منعت القوات النازية من تداول اللوحة أو صور اللوحة كونها الهلع أمام شر النازية وأرسلت ضابطاً يتبع البوليس السري “الجستابو” للتحرش ببيكاسو في مرسمه بباريس سائلاً إياه: ” أنت صنعت هذه اللوحة؟!!” أجابه: ” بل أنتم من صنعها؟

في مساحة “349* 776” سم2 في آخر محطة للجورينكا في متحف الملكة صوفيا

 

 

 

بمدريد وباستخدام تقنية التصوير الزيتي، استخدم بيكاسو الألوان الحيادية (الأسود والأبيض والرمادي) في تعمد وإصرار منه لتعزيز الشعور بالمأساة و الظلم ، وهو لم يكن قد شهد هذه الكارثة لكنه اطلع على الصور التي نشرت في الصحف الباريسية.

 

إن الألوان التي يخال للمتلقي أنها ناقصة في الجورنيكا هي المشاعر التي يتطلب منه إفرازها أمام هذا الألم و الحزن و الصراخ لابد للألوان أن تتجلى في عيني المشاهد، و في رعشة يديه وتصلب قامته أمامها، الحياد في تعبير الفنان كان اختزالا لجور الظلم و المعاناة، إن هروبنا من التفكير في الدم هو دليل كثرة الدماء، إنه توقع بأن نلتمس ما حاول إخفاءه من أنين ..

 

و مما احتوت اللوحة من ترميز نستعرضه أمامنا، فالثور يرمز لوحشية النازي و خبثه و تدميره والحصان يرمز لأسبانيا الجريحة التي تتألم و تصرخ من آثار الهجوم النازي والرأس الذي يصيح و الذراع التي تحمل المصباح يشيران إلى الضمير البشري الذي يلقي ضوءاً على هذه المأساة و يلومها.

 

أتساءل كم مساحة تكفي للحديث عن الصراخ والألم الذي يصلني كل يوم؟!!!