النباء اليقين

القدس، ضرّة تل أبيب الجديدة هل يزفها العرب؟

الهدهد..

أن تكتب شيئاً عن الشأن الفلسطيني يلزمك الكثير من الفوضى النظيفة، والصدق المبتل بالجنون الأنيق. أن تحلل الأحداث وتتنبأ بمجرياتها وتبعاتها يعني أن يتحكم في جهازك التنفسي أمرٌ أخر، يجعل من زفراتك المطرزة بالصدمة سحب شجن تظلل أولى القبلتين.

تعودت القدس الشريفة دائماً على الإتصال بالسماء عندما تنشغل خطوط الأرض، ولم تعوّل يوماً على الملايين من الجيران؛ من يتكلمون العربية ويدينون الإسلام ويترجمون بأفعالهم ما ينفي ذلك ويعريّه سلوكاً ومواقف. فمنذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية القدس عاصمة للكيان الصهيوني في العام 1995م، وقررت يومها نقل سفارتها إلى القدس مع وقف التنفيذ؛ تعيش الأراضي الفلسطينية المحتلة حياة النزوح أرضاً وإنساناً، ولم يعد في صرتها سوى إسم فلسطين فقط، أما جوهرها فمحروم من أبسط امتيازات دولة مستقلة لها سيادتها واستقلال قرارها السياسي.
تأجيل مشروط
ترى واشنطن ومن خلفها تل أبيب أن إعلان ذلك القرار مجاهرة من شأنه أن يؤجج حالة من الغليان الشعبي العربي، وقد يتسبب ذلك في أعمال عنف تطال مصالحها في الشرق الأوسط، وهذا ما حصل فعلياً؛ فمنذ ذلك التأريخ والقرار في أدراج الإدارة الأمريكية رغم تعاقب عدة رؤساء من كلا الحزبين الأمريكيين حتى وصول الحقبة الترامبية.  ولا يمكننا إغفال ادراك الولايات المتحدة وإسرائيل ان الصراع في الشرق الأوسط كان موجهاً “عربياً إسرائيلياً”، وكل الدول العربية والإسلامية تعيش حالة من الإستقرار والهدوء الداخلي، ولا وجود لنعرات أو فوضى يعدل مسار الصراع إلى صراع “عربي عربي” من شأنه إشغال الشعوب والهائها عن قضيتها الأولى، ناهيك عن تدمير الجيوش وسلخ الهوية وبتر الأواصر وتقطيع أوصال النسيج الاجتماعي.
بديل خفي
وجدت الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية إستراتيجية جديدة تفي بالغرض، فدفنوا جسد القرار منذ ذلك العام ومنحوه شهادة وفاة تراءت أمام الأنظار الإسلامية والعربية أنظمةً وجماهيراً، وأبقوا على روح القرار ومنحوه حياة خفية لها مظاهر فرعية تؤدي إلى الأصل، وتجلى ذلك جلياً في التهجير والتشريد، وتوسيع رقعة الاستيطان، ووأد أي مولود للمقاومة حتى لو استدعى الأمر التدخل العسكري، ناهيك عن تجذير سياسة “فرّق تسد” بين مختلف الفصائل الفلسطينية. ومع طوفان الربيع العربي جاءت أنظمة عربية جديدة على حساب أخرى، وكان لواشنطن والرياض اليد الطولى في وصولها للسلطة، وبالتالي لا تتحرك قيد أنملة عن مخطط املاءاتها وتوجيهاتها، والتي غالباً ما تصب سلباً وجحيماً على القضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني.
الأمر سيان
يرى الجميع حالياً ألّا فرق بين الإعلان من عدمه، فالقدس لم تكن تملك نفسها قبل إعلان القرار وإن بدت كذلك وبدا العلم الفلسطيني مرفرفاً في افيائها، فكل التعسفات الإسرائيلية جاثمة على صدرها منذ زمن وما زالت، لدرجة منع المصلين من الصلاة في الأقصى وسلبهم كرامتهم وانتهاك حقهم الديني والإنساني والوطني والقومي على مرأى ومسمع من العالم، وفي المقدمة فحيح الدول العظمى وأبواق السلام ونعيق حقوق الإنسان الصاخب. لكن التطور الخطير الذي سيثمر عن هذا القرار هو الاعتراف بالكيان الإسرائيلي رسمياً من دول عربية وإسلامية سقطت أقنعتها مؤخراً.
ضوء أخضر سعودي
لم تكن زيارة الرئيس الأمريكي للرياض صدفة عابرة، فهي الزيارة الخارجية الأولى له بعد وصوله سدة الحكم، ففي صلب ابعادها وعمق أهدافها إعلان وإشهار الزواج السعودي الإسرائيلي الخفي، وإضفاء الشرعية الدينية لهذا الزواج كون المملكة تعد رمزية للمسلمين بتواجد قبلة المسلمين ومشاعرهم المقدسة في أراضيها، أضف إلى ذلك خلق علاقة تقارب جديدة تحت سقف حوار الأديان، وهو ما أكدته زيارة ترامب للفاتيكان وإسرائيل في ذات الرحلة المكوكية. تأتي إظهار العلاقة السعودية الإسرائيلية للعلن تمهيداً للاعتراف بالكيان الإسرائيلي وتفعيل التطبيع العلني، وتجسيد ذلك من خلال قرارات امريكية واسرائيلية مصيرية توافق عليها السعودية وتضغط على الدول التي تقع تحت نفوذها السياسي والعسكري والأمني واقناعها بإسلوبي الإغراء والتحذير.
بطولة بن سلمان
خلال ثلاثة أعوام فقط أستطاع الشاب المراهق “بن سلمان” أن يتسلق من ولاية ولاية العهد السعودي مروراً بولاية العهد ووصولاً لسلطة القرار السعودي بكل أريحية مقصياً بذلك شخصيات سياسية مؤثرة لا زالت على قيد الحياة وسط جدل واسع في الوسط السعودي. هذه الاريحية منحته إياها الولايات المتحدة الأمريكية مقابل تنفيذ أجندتها وتثبيت أوراق لعبتها في الشرق الأوسط، وقد أثبت الشاب ولائه المطلق من خلال نجاحه في إثبات حسن نوايا الطاعة وترجمة ذلك في الواقع السياسي والايديولوجي والأمني، ومن شواهد ذلك العدوان على اليمن، والميليشيات المسلحة في العراق وسوريا، ومقاطعة قطر، والتحرش بالجمهورية اللبنانية.
لماذا الآن..؟؟
اختيار التوقيت الحالي لإعلان قرار القدس عاصمة لإسرائيل، يأتي بعد أن ضمنت السعودية لأصحاب القرار عدم ولادة أي تبعات أو ردود أفعال مناهضة ومناوئة للقرار؛ على الأقل في الأقطار التي تسيطر الرياض على سياستها وتتحكم في قرارها، وهذا ثمن يدفعه “بن سلمان” ليخلف والده ملكاً للسعودية. سياسياً يتوقع الجميع ردة فعل حازمة ومسئولة من المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني وقد تعقبها تطورات يستطيع العدوان الأمريكي الصهيوني السعودي استغلال بعضها واثارتها للحصول على فرصة لاستهداف الشعب اللبناني من بوابة حزب الله، ذلك الكابوس الذي قظّ مضاجعهم وأرّق مقل مناماتهم.
الحضن العربي
تشن دول العدوان حرباً ضروس منذ ثلاثة أعوام لغرض إعادة اليمن إلى الحضن العربي؛ ولسان حال اليمنيين: أعيدوا القدس الآن الى الحضن العربي؛ أما اليمن فهي أصل العرب ومنبع الحضارة والتأريخ منذ الأزل، وليست في حاجة لحضن مترهل لم يتحرر بعد من العباءة الإمريكية والغربية. هذا الحضن العربي المغلوب على أمره بفعل أنظمته الواهنة، لم يستطع اليوم إبداء إي تضامن ولو نفاقاً بالشجب والتنديد، ولن يكن بمقدوره الحديث عن بيان عربي أو تحديد مكان وزمان لإنبلاج قمة عربية صورية تحفظ ماء وجهه المتصبغ بالسواد.

بقلم: فؤاد الجنيد