التهويد الثقافي: القدس ويوسف زيدان.. رؤية تاريخية أم توظيف سياسي؟
أسامة رحال
في ظلِّ مرحلة حساسة تمر بها القضية الفلسطينية عامةً وقضية القدس خاصةً بعد إعلان ترامب الأخير، يعيد المؤرخ والروائي المصري الدكتور يوسف زيدان إظهار مقاربته التاريخية المثيرة للجدل والتي تخص مدينة القدس. والمشكلة لا تكمن فقط ضمن طيّات المقاربة التاريخية، رغم متانة بعض جوانبها، إنما تكمن في التوظيف السياسي لتلك المقاربة.
يتدرج زيدان في مقاربته هذه منذ ما قبل الميلاد إبان سطوة الدولة البابلية، حيث إنه يذهب للقول إنّ أراضي فلسطين الجغرافية سكنها الكنعانيون (الذين انحدر منهم العرب) إلى جانب العبرانيين (اليهود) والجماعات القادمة من البحر (تلك التي تسمى الفلسطينيين، نسبة إلى جَذر “فلسطي” والذي يعني القادم من البحر)، وهو أحد الأمور التي يبني عليها مقاربته تجاه حقوق كل هذه الأعراق في العيش على هذه الأرض، والتي سنعود لذكرها لاحقاً.
يتجه زيدان نحو البعد المقدّس لمدينة القدس في كل من الديانات السماوية، بدءاً من اليهودية والتي تقول بقدسيتها لوجود المعبد والهيكل فيها، لكنّ شيئا منها ما عاد موجودا، سوى ذلك الجزء من جدار المعبد (حسب رؤيته)، بعد أن دمر الرومان المدينة القديمة بكاملها عام 70 ميلادية، لتبنى على أنقاضها مدينة جديدة بعد عشرات السنين سميت “ايليا”.
ودمار المدينة القديمة يعني وفق هذه الرؤية طمس للمكان الذي قام منه السيد المسيح(ع) بعد “صلبه”، كما يعتقد المسيحيون. أما كنيسة القيامة فقد بنيت في القرن الميلادي الرابع، عند بعض البقايا الخشبية لصليب المسيح (ع). الأمر الذي يعني انتفاء الأسباب التي تخول تقديس اليهودية والمسيحية للقدس بعد ان طمست آثار المدينة القديمة على أيدي الرومان.
أما لجهة المسلمين، فيذهب زيدان لضرب قدسية مدينة القدس عندهم باعتبار أن المسجد الأقصى الوارد في سورة الإسراء ليس الموجود في القدس، بل هو كائن على الطريق بين مكة المكرمة والطائف، معتمدا على بعض الروايات التي سمت المسجدين اللذين صلى فيهما الرسول الأكرم (ص) على طريق الطائف بالمسجد الأدنى والمسجد الأقصى، وهو الأمر الذي رد عليه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بأنّ من يقول مثل هذا الكلام ليس إلا “بوقا من أبواق الصهاينة في الشرق، وأنه جاهل ومروج للخرافات، وهو كلام لا يستند إلى أي دليل ولا إلى شبهة دليل”.
وبالعودة إلى مقاربة زيدان فإنه يؤكد أنّ المسجد الأقصى الموجود في القدس لم يبصر بناؤه النور إلا في زمن عبد الملك بن مروان، اذ إنه لم يكن ثمة وجود للمسجد في زمن النبي (ص) ولا حتى في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حين فتح المسلمون القدس. حيث أن الخليفة الثاني صلى على ما وصفها زيدان أنقاض معبد سليمان التي كان المسيحيون قد حولوها إلى “مزبلة” نظرا لقدسية المكان لدى اليهود في ظل العداء بينهما، وهو المكان نفسه الذي حوله ابن مروان لاحقا إلى المسجد الأقصى، في خضم صراعه مع عبد الله بن الزبير بن العوام، لأن الأمويين أرادوا تأطير مكان ذي قدسية دينية لدى المسلمين في حيز سيطرتهم الجغرافي، بعد سطوة ابن الزبير على المدينة المنورة ومكة المكرمة.
الأمر الذي يعني ضرب كل الروايات الراجحة عند المسلمين فيما خص الإسراء النبوي إلى القدس، أما المعراج بحسب قول زيدان أيضا، فما هو إلا وهم مأخوذ من التراث الزردشتي.
لكن زيدان لم يأت في أي من طروحاته حول البنية القرآنية للمقاربة الإسلامية في خصوص القدس على ذكر الآية: “وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا”، هذه الآية التي تحظى بشبه إجماع بين جمهور علماء التفسير القرآني، لدى جميع المذاهب الإسلامية بأنها تخبر عن المسجد الأقصى الموجود في القدس.
لا تنتهي مقاربة زيدان التاريخية في ثنايا التراث الإسلامي هنا، فهو يقوم أيضا كلما سنحت له الفرصة بالهجوم على صلاح الدين الأيوبي واصفا إياه بإحدى أقذر الشخصيات البشرية. بسبب المجازر التي ارتكبها صلاح الدين بالمسلمين، كما بلحاظ أنّه أعاد السماح لليهود بالدخول إلى القدس بعد 600 سنة من العهدة العمرية التي ضمنت للمسيحيين عدم عودة اليهود إليها، وفق ما طلب اسقف القدس من الخليفة الثاني عند فتح المدينة. ثم يؤكد ابن مدينة الإسكندرية أنّ صلاح الدين ليس هو من حرر القدس من الصليبيين، فالأخير خسر معاركه مع الصليببين وخسر القدس وفرّ هاربا.
وهذا يعني ضرب رمز تحرير القدس عند العامة، من دون إعادة تشكيل وتصحيح المفهوم، فليست المشكلة في القول إنّ صلاح الدين ليس بذلك الرمز الذي يستحق ما بني عليه من كل هذه الأساطير، بل في محاولة ضرب رمزية تحرير القدس التي يحملها، من دون إعادة بناء المفهوم التاريخي السديد. أوليس زيدان نفسه هو من أطلق على عامي 2016 و2017 اسم عامي “إعادة بناء المفاهيم والتصورات الأساسية”؟
ثم يستخلص زيدان من كل ما سبق أنّ “القدس . . (إيليا، بيت هميقداش، اوروشاليم، يبوس) هي مدينةٌ؛ من حيث الأمم والأعراق: كنعانية، عربية، عبرانية، فلسطينية (الفلسطي، هو الوافد عن طريق البحر = البحّار) . . ومن حيث الاعتقادات الدينية، هي مدينةٌ: إسلامية، مسيحية، يهودية”، رغم تعارض هذا الاعتراف مع جوهر مقاربته الذي يكمن في ضرب قدسية المدينة عند الديانات الثلاث، وهو ما عرضناه آنفا.
ولن أطيل أكثر في عملية سرد مقاربته التاريخية لأنني لست في صدد مناقشة كل جوانبها التاريخية المحضة والتي تدرس في محل آخر، لكن عملية التوظيف السياسي للمقاربة التاريخية هي ما أصبو إلى الإضاءة عليه أيضا.
فبناءً على مقاربته التاريخية، يقول زيدان إنّ كل القضية في فلسطين هي قضية سياسية، حَاوَلَ الحكام العرب ورجال الدين تجييرها في سبيل مصالحهم ومنافعهم، معتبرا أنه لولا تجييش هؤلاء للشعوب لكنا نستطيع أن نعيش بسلام. مع العلم أنّ زيدان نفسه قد زعم في مقابلة له بتاريخ 24/12/2017 أنّ الإخوان المسلمين هم من بدأوا بتسعير الكراهية بين المسلمين واليهود، وهنا يظهر بشكل جلي مصداق تجييره هو للقضية الفلسطينية في زواريب السياسة المصرية، في خدمة النظام المصري وصراعه المستمر مع تنظيم الإخوان المسلمين.
على أن هذه المقابلة وبعد عرض جزء من مقاربته التاريخية الآنفة الذكر كانت زاخرة برسائل السلام والمحبة تجاه “اسرائيل”، سائلا: “يعني ايه لاء للتطبيع؟”، وقائلاً: “مصر دي دولة محترمة بس تعمل اتفاقية سلام يعني نعمل اتفاقية سلام”. كما بمحاولات اللعب على الوجدان الفلسطيني عبر عملية استحضار شاعر القضية محمود درويش في سياق يوحي أن الأخير كان ينظر إلى الإسرائيليين نظرة تقدير ومساواة!
وبناءً على كل ما تقدم، من عرض للمقاربة التاريخية ولتوظيفها السياسي، يمكن القول إنّ زيدان نفسه، الذي يرمي القضية الفلسطينية بشكل عام وقضية القدس بشكل خاص بكونها قضية محض سياسية، استعملها الحكام ورجال الدين لتعزيز سطوتهم، يقوم بإسقاط مقاربته التاريخية سياسيا ليقول ما قال حول القضية، ابتداءً من الدعوة لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي وحقن دماء الفلسطينيين، وصولا إلى تأييد التحاور مع “إسرائيل”، كما إلى جعل القدس مدينة دولية ـ كما طرح في احدى مقابلاته السابقة ـ إذ إن فلسطين ليست ملك الفلسطينيين وحدهم!
المصدر: العهد